الوقوف والتوقف في مُربّع النكبة

04:41 صباحا
قراءة 4 دقائق

مرت الذكرى الخامسة والستون لسقوط فلسطين قبل أيام باستحضار المناسبة في مخيمات اللجوء بصورة متواضعة، وبالغة الرمزية لم تتردد أصداؤها خارج المحيط الضيق لأمكنة الاحتفالات، وأصدرت الفصائل والسلطتان في رام الله وغزة بيانات بالمناسبة، ويشك المرء في أن أحداً من ذوي العلاقة قد توقّف عند تلك البيانات .

ولعل أفضل استذكارات للمناسبة هي التي جرت على أرض الوطن الأم أمام أنظار العدو الذي أقام دولته على الأرض المسلوبة . ولا يود المرء هنا الذهاب بعيداً إلى درجة الخلوص مثلاً إلى ضمور معنى النكبة في أوساط الشعب المنكوب، وكذلك لدى شعوب شقيقة متضررة . فواقع الحال يفيد أن الصراع العربي - الصهيوني بات أكثر فأكثر مسألة إقليمية ودولية وإلى درجة تكاد تطغى على البُعدَيْن الوطني والقومي للمسألة . وخلال ذلك فإن التحديات الذاتية داخل الإقليم، تطغى بدورها على القضية التي ظلت لعقود: مركزية وتحظى بأولوية . من العراق إلى مصر، ومن سوريا إلى لبنان فالأردن فإن التحديات الداخلية معطوفة على استقطابات دولية، تشكل أولوية لهذه البلدان تتساوى في ذلك الأنظمة والمجتمعات . ولعلها من الشواهد ذات الدلالة الكبيرة أن تتعرض دمشق لقصف صهيوني قبل أيام من ذكرى النكبة، فيما آلاف من اللاجئين ينزحون من مخيمات سوريا إلى مخيمات لبنان (لبنان الوحيد المستعد لاستضافتهم . .)، كل ذلك فيما سوريا منهمكة حتى الأذنين في أزمتها الداخلية - الإقليمية الطاحنة .

على هذا النحو تبدو الأمور متشابكة ، فيتم عملياً إقصاء الصراع مع الصهيونية عن سُلّم الأولويات، ومن جانبه فإن الطرف الفلسطيني يتطوع بالاستجابة الآلية لهذه المؤثرات الإقليمية وتقييداتها، ويرهن المصير الوطني رهناً تاماً بها، مُضحياً بالفاعلية الذاتية ومُبْخِساً قيمتها وجدواها، مؤمّلاً بأن تهبّ رياح مواتية ذات يوم كي يقتنصه! . وفيما تم تكييف الحق الوطني الثابت في إطار دولة على الضقة والقطاع، فإن المآل السياسي منذ عقدين انتهى إلى سلطة مقيدة في رام الله، لم تلبث أن انشقت عنها سلطة ثانية في قطاع غزة، بما يكرس الانفصال التاريخي بين الضفة والقطاع منذ أن انضمت الضفة الى الأردن، وانضم القطاع إلى مصر مطلع خمسينات القرن الماضي . . خلافاً للمغزى الذي أطلقه الراحل ياسر عرفات لدى عودته في العام 1993 إلى الوطن عبر قطاع غزة، قبل أن ينتقل إلى رام الله .

وسط هذا الجو القاتم أذاع الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني لمناسبة حلول ذكرى النكبة، تقريراً أفاد فيه أن عدد الفلسطينيين المقيمين على أرض فلسطين التاريخية حتى نهاية العام ،2012 قد ارتفع إلى 8 .5 مليون نسمة يتوزعون بين 7 .2 مليون في الضفة و7 .1 مليون في قطاع غزة و4 .1 مليون داخل الخط الأخضر . وذلك من جملة 6 .11 مليون فلسطيني . وفي الحسابات الديموغرافية فإن عدد الفلسطينيين يناهز نحو 47 في المئة من إجمالي المقيمين على أرض فلسطين التاريخية اذ يناهز عدد اليهود نحو 3 .6 مليون نسمة (وذلك باللجوء إلى معدل وسطي للإحصاءات الفلسطينية والاسرائيلية) . وقد تمت زيادة عدد اليهود نتيجة السياسة المنهجية في ربع القرن الأخير على الخصوص، ليس فقط باجتلاب اليهود الروس والفلاشا، بل بجذب يهود من كل مكان في العالم بما في ذلك من فرنسا مثلاً .

غير أن هذه الأعداد والنسب التي تثير قدراً من التفاؤل بتوازن ديموغرافي ينبغي ألا تحجب واقعاً قاتماً في الضفة الغربية التي تحتضن أكبر عدد من أبناء الوطن المقيمين على أرضهم . فجدار الضم والتوسع المقام في الضفة الغربية وبطول 680 كلم، قد تم إنجاز ستين في المئة منه وهو يقتطع 12 في المئة من أراضي الضفة ويعزل 300 ألف مواطن فلسطيني معظمهم في القدس وما حولها . إضافة إلى حصار نحو 850 ألف مواطن .

هكذا مع بناء الجدار وعزل منطقة القدس، فإن الضفة الغربية تحولت إلى كانتونات إما مغلقة مثل القدس، وإما شبه مغلقة مثل قلقيلية شمالي الضفة، ومن اللافت أنه فيما يتواصل بناء الجدار على قدم وساق، فإن الجانب الفلسطيني أوقف معركته السياسية بشأنه منذ سنوات، ولم يعد أحد يأتي على ذكره إلا في مناسبات عابرة! وإمّا القدس (الكبرى) المحتلة، فإن محمود عباس لم يسعَ يوماً هو وبقية أركان السلطة حتى لأداء الصلاة في مسجدها (الأقصى)، حتى لو حيل بينه وبين ذلك، مكتفياً برفض استئناف التفاوض كسقف أعلى للصمود السياسي، بينما يفرض المحتلون وقائع على الأرض تكاد تحدد مسبقاً نتائج أية مفاوضات مستقبلية، ويجري خلال ذلك إفراغ الزخم الجماهيري من طاقاته الحيوية، بمنع سائر مظاهر الاحتجاجات في وجه قوات الاحتلال والمستوطنين، بدعوى أن ذلك يشكل ذريعة لاعتداءات صهيونية بما يوجب نزع هذه الذريعة . .

وعلى الجانب الآخر في قطاع غزة، فإن سلطة حماس معنية في المقام الأول والثاني بتوطيد سلطتها، ونسج علاقات إقليمية مع حكومات الربيع العربي الإسلامية، وباتت الضفة الغربية المحتلة بالنسبة إلى الحركة حُلماً يراودها لتوسيع مدى سلطتها، بدل المساهمة مع الجميع في بلورة برنامج وطني مشترك لتوحيد أشكال ومظاهر الجهد الوطني لإزالة الاحتلال .

حقاً إننا مازلنا في مربع النكبة فلسطينياً وإقليمياً ودولياً .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"