اليورو باقٍ

00:57 صباحا
قراءة 4 دقائق
لا يمكن إدخال نقد بحجم اليورو إلى الأسواق العالمية من دون قواعد وأسباب وسنوات طويلة من التحضير. يجب أن تكون هنالك رغبة كبيرة من قبل الدول المهتمة في إنجاح مسيرة النقد. يجب أن تكون هنالك أسباب جوهرية تشكل حوافز للدول المشاركة لإنجاح إدخال النقد. هل وجد اليورو لمنافسة الدولار فقط، أم هنالك مصالح أوروبية اقتصادية ومالية، وربما سياسية لإدخال نقد مشترك وإنجاحه؟ أحد مؤسسي أوروبا كان الرئيس الفرنسي شارل ديغول الذي كان يعتقد بضرورة إيجاد اليورو لمنافسة الدولار. كان يخشى النفوذ الأمريكي، ويريد تقوية الداخل الأوروبي للوقوف السياسي والاقتصادي في وجه الولايات المتحدة. لذا بنى ديغول العلاقات الفرنسية الألمانية لحاجته إلى ألمانيا في مواجهة أمريكا. ديغول كان يعتقد في الوقت نفسه أن الاقتصاد الألماني القوي، وتركيزه على الصادرات للنمو سيضع دائماً الفرنك الفرنسي في موقع صعب وضعيف. هنا تكمن ضرورة إيجاد نقد جديد يحل محل المارك والفرنك في مواجهة الدولار. لا ننكر وجود رغبة أمريكية أكيدة في تقوية التحالف الفرنسي الألماني لمواجهة الإمبراطورية السوفييتية التي أصبحت المنافس، بل ربما العدو الأول لأمريكا.
وجدت الوحدة الأوروبية لتبنى على النموذج الأمريكي الشمالي. كان الهدف بناء الوحدة الاقتصادية أولاً، ثم السياسية. وتظهر الوقائع اليوم خطأ السير في هذا الاتجاه، أي كان من الممكن السير سوية تجاه الوحدتين.
الذي شكّل اللاصق بين المجموعات الأمريكية هي الديمقراطية، أي انتخاب مجلسي شيوخ ونواب يلعبان دوراً كبيراً في النظام الأمريكي، ومسؤولان تجاه المقترع الأمريكي. وترتكز الدولة الأمريكية على الرئاسة لكن أيضاً، وربما أكثر، على المجلسين التشريعيين، كما تشير إليه الوقائع الحالية مع ترامب. هذا مفقود في أوروبا، إذ بالرغم من وجود مجلس نواب أوروبي فهو أقل أهمية من المثيل الأمريكي. تدير أوروبا في الواقع مجموعة من الموظفين، وربما التقنيين ما يجعل المحاسبة غير موجودة. كما أن المؤسسات الأوروبية لم تتطور مع الوقت للتأقلم مع الحاجات والمستجدات. وفي الواقع تبقى القوة السياسية الأساسية في أوروبا مع الدول المنفردة، وليس مع المركز، كما هو الحال في واشنطن. ولا ننسى أبداً أن مسؤولية مجموعة «بروكسيل» في الخمسينات كانت تثبيت سعر الفولاذ والفحم، وإلغاء الحواجز أمام التجارة بين الدول الأعضاء.
بناء أوروبا تجربة كبرى جمعت بين جنسيات وأعراق وهويات مختلفة. جمعت سكاناً من أصول وتاريخ يتكلمون لغات وطنية مختلفة. على عكس الاتحاد السوفييتي الذي خلق بالقوة دولة مشتركة من هويات مختلفة، كانت الفكرة إيجاد نموذج ديمقراطي تقرره الشعوب بحماسة، ورغبة، وحيوية، وحرية، أي الوحدة الأوروبية. لذا بنيت على مبدأ احترام حقوق الإنسان وحريته، أي تأمين أبسط الحقوق الاجتماعية للمواطن، ما يشكل الحافز الكبير للنمو والنهوض، وحتى التنمية. لم تنجح الوحدة دائماً في تحقيق الأهداف، إلا أنها أحرزت تقدماً كبيراً. وكان من المفروض أن يشكل خلق اليورو عاملاً أساسياً لتقوية الانصهار الأوروبي، فكان عموماً عاملاً مسبباً للتباعد بين الأوروبيين. لن يكون الخطأ في الفكرة، إنما في التنفيذ وفي غياب العامل السياسي الأساسي الموحد. اليورو لم يفشل لكنه بحاجة إلى ترميم كي يقوى.
يقول «يانيس فاروفاكيس» في كتابه «خسارة الضعفاء» إن الدول الضعيفة، أي اليونان، هي الخاسرة من وحدات كبيرة من هذا النوع. عندما كان وزيراً للمالية لأشهر قليلة، وضع الدول الأوروبية الأساسية في موقف عدائي نتيجة خطابه القاسي والهجومي، علماً بأن المنطق لم يكن خاطئاً. وعندما قال له الوزير الألماني أن دولته تريد استرداد قروضها لليونان، أجابه فاروفاكيس عن الوقت الذي ستعوض فيه ألمانيا لليونان الخسائر التي حققتها فيها خلال الحرب العالمية الثانية. لم يتعود الألمان على هذا المنطق، وبالتالي شكل نقطة الطلاق النهائي بين حكومته والحكومات الأوروبية الأساسية، أهمها الألمانية، ما استوجب استبداله بشخص آخر في المالية اليونانية.
كان الدولار النقد العالمي الوحيد المبني على قوة أمريكا الاقتصادية، وعلى نظام سعر صرف نقدي ثابت. بني نظام «بريتون وودز» على قوة الولايات المتحدة وعلى فائض ميزان الحساب الجاري لديها. واستمر عمل النظام ممتازاً معتمداً على هذا الفائض الذي بدأ يندثر وبالتالي وضع النظام النقدي العالمي كله في خطر. يقول فاروفاكيس إن أزمة 2008 كانت نتيجة اتفاقية «بريتون وودز» السيئة حيث رفضت الولايات المتحدة اقتراحات «كينز» الذي مثل بريطانيا في تلك الاجتماعات. كان كينز يريد بناء نظام نقدي عالمي، وليس نظاماً نقدياً أمريكياً. مشروعه كان يعتمد على خلق نقد عالمي جديد مرتكز على نظام سعر صرف ثابت يشرف عليه مصرف مركزي عالمي. واقترح كينز أن يكون صندوق النقد هذا المصرف، لم تلق اقتراحات كينز أي تأييد أمريكي فجرى اعتماد بريتون وودز.
عندما بدأ ميزان الحساب الجاري الأمريكي يصبح عاجزاً، بدأ الخوف من عدم استقرار النظام النقدي، وبدأ المجتمع الدولي يشتري الذهب من أمريكا نفسها، ما فرض عليها التخلي عن التزامها بتسديد المعدن الأصفر مقابل النقد الأخضر. في الواقع تحقق فائض في الميزانين الألماني والياباني على انقاض الفائض الأمريكي. واستمر المصرف المركزي الأمريكي في زيادة الكتلة النقدية لتجنب ركود عالمي، ما سبب انخفاضاً في قيمة الدولار الحقيقية، وبالتالي رغبة متزايدة في التخلي عنه لمصلحة نقد آخر ربما المارك. وفشل بريتون وودز، أو نهايتها، فرض خلق نقد جديد تمت تسميته لاحقاً باليورو. أرادت أوروبا فعلاً خلق نقد عالمي يحل مكان الدولار أو يشكل منافساً كبيراً وقوياً له.
لا شك في أن انتخاب ماكرون ساعد كثيراً على إبقاء فكرة الوحدة النقدية الأوروبية حية. سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة تضعف الدولار والصين ليست جاهزة بعد للعب الدور النقدي المركزي.
كما لا بد من معالجة بقايا أزمة 2008 التي امتدت إلى المصارف والديون والاستثمارات والمواضيع الاجتماعية. ووجود سلطة تشريعية مركزية قوية يساعد جداً. يجب عدم تكرار الخطأ الأوروبي، بجعل الدول الضعيفة تدفع أخطأ المصارف المتهورة.

لويس حبيقة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"