انتكاسة التاريخ ومساءلة مبدأ «الإنسانوية»

03:39 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

حظيت الإنسانوية بحضور قوي ومتزايد بعد انهيار جدار برلين، ونهاية الحرب الباردة، فالحدث الكبير المتمثل بنهاية عصر القطبية الثنائية في النظام الدولي فتح الباب واسعاً أمام استدعاء جديد لمبدأ الإنسانوية. فقد كانت عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية أشبه بعالم منقسم بين مملكتي الخير والشر، فكل كتلة من الكتلتين الغربية والشرقية ترى في نفسها الخير المطلق، وفي الكتلة الأخرى الشرّ المطلق، ومع فتح الحدود ما بين العالمين كان لا بدّ من إعادة النظر فيما تركته المرحلة السابقة من إرث فكري وسياسي واجتماعي واقتصادي، والتنظير للمرحلة المقبلة، انطلاقاً من منظور ليبرالي أوسع، مع عدّة مفاهيمية تنتمي إلى عصر ما بعد الحداثة.
وإذا كانت البرجوازيات الوطنية/ القومية هي القاطرة التي قادت أوروبا نحو الحداثة، وأسّست لمنظومة قيمية تقوم على السوق المفتوحة، وقيم الحرية، والديمقراطية، والقومية، مستندة إلى عمل جبار لفلاسفة التنوير، الذين رسّخوا مبدأ العقلانية، فإن عصر ما بعد الحرب الباردة أتى مدفوعاً بقاطرة مختلفة، تشكل نواته الصلبة الشركات العملاقة العابرة للقارات والجنسيات والثقافات، وقد أبرزت هذه النواة الصلبة إلى دائرة الضوء مفاهيم جديدة أو منحت المفاهيم القديمة معاني جديدة، وحاز مفهوم الإنسانوية مكانةً مهمةً في هذا السياق العولمي.
تضمّن مفهوم الإنسانوية عدداً من المفاهيم المتصلة بالمجالات الاقتصادية والاجتماعية والقيمية، إذ احتّل مفهوم التنمية، بوصفه أحد مرتكزات مبدأ الإنسانوية، مساحة واسعة من الجدل والعمل في المؤسسات الدولية، خصوصاً في مؤسسات الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، حيث أطلقت في البلدان التي تعاني أزماتٍ في إفريقيا وآسيا وأمريكية اللاتينية مشاريع للتنمية، طالت قطاعات وشرائح واسعة.
الإنسانوية الجديدة، أو إنسانوية العولمة، طرحت مرة أخرى أولوية «الذات» على «الكسب»، لكنها، هذه المرّة، ركّزت على قيم التضامن بين البشر، في منحى مؤسساتي، تمثّل بدعم مؤسسات المجتمع المدني، التي تعمل في مجالات التنمية والتضامن والتمكين، لكنها من حيث الواقع العملي جعلت من هذه القيم اختصاصات وظيفية، تستند بالدرجة الأولى إلى وجود مانحين وممولين، من خارج الحدود الوطنية.
كان الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844-1900) من أكثر الفلاسفة الذين رفضوا فكرة التقدم الخطي للتاريخ، وبالتالي رفض الانصياع لوهم فكرة التقدم المجرّدة، فالتاريخ قابل دائماً لأن يشهد انتكاسات كبرى، كما أن التقدم في المجالات العلمية والتكنولوجية ليس المقياس الوحيد للتقدّم، ولا ينبغي له أن يكون كذلك، على حساب قضايا قيمية عليا، أو على أنقاضها.
إن نهاية عصر الحرب الباردة، أطلقت وعوداً كبرى بمعالجة الأزمات الدولية بعيداً عن منطق العنف والتسلّح، وإعطاء القوّة الناعمة دوراً أكبر في العلاقات بين الدول.
من جديد، تعود السياسات الدولية عارية من أي غطاء دبلوماسي، كاشفة عن روح مقامرة لأجل السيطرة على منابع الطاقة، وزيادة الهيمنة، من دون أي حسابات حول الكلفة البشرية والأخلاقية لاستعادة منطق العنف في حلّ النزاعات، أو التوصل إلى تسويات عبر التفاوض، وهو ما يشير إلى فشل هائل في التأسيس لعالم أكثر إنسانوية، والكشف عن الانفصال بين الحملات الترويجية الفكرية والسياسية والأكاديمية لقيم التضامن العالمي، والمواطنية العالمية، والحدود المفتوحة، والحوار، وبين الواقع العملي للجهات ذاتها التي تقف وراء معظم تلك الحملات، منذ بداية عقد التسعينات في القرن الماضي، وهي القوى النيوليبرالية، في تحالفاتها وإمكاناتها الهائلة.
إن فكرتي «التقدم التاريخي» و«الإنسانوية» هما اليوم محطّ شك، وينبغي مساءلتهما انطلاقاً من الواقع، فثمة إخفاق واضح في بناء نظام دولي جديد، فالتعبيرات القديمة للمصالح تعود مرّة أخرى، حيث نشهد موجات استعمارية جديدة، وإعادة تمحور حول القومية، بعيداً عن العمل من أجل إنتاج مصالح مشتركة عالمية، والأسوأ من ذلك أن الحكومات الكبرى أصبحت أقل استقلالية في صناعة السياسات، بل يمكن القول إنها مجرد تعبيرات قشرية «سطحية» لمصالح القوى الاقتصادية والمالية العولمية، وهو ما يجعلنا نشك بأن أي ترويج لمبدأ الإنسانوية من الجهات الأممية والدولية ليس إلا تعمية عن المصالح الحقيقية، وفي أفضل الأحوال هو محاولة لإراحة الضمير عن حجم الإساءات الفظيعة بحق الإنسانية نفسها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"