بورتريه للتفاهة

02:56 صباحا
قراءة دقيقتين
يحيى زكي

هل نعيش عصر «التفاهة»؟، يقدم بعض المثقفين العرب إجابات عدة لهذا السؤال، وكلها تقول نعم، إجابات بألوان الطيف المختلفة، وسنلحظ بين تلك الإجابات ذلك التصميم على أن تلك «التفاهة» تتجلى في مفاصل الحياة في معظم مجتمعاتنا العربية، ولكن المفكر الكندي آلان دونو، يحلل باستفاضة «التفاهة» التي تعم مناخ العصر بأكمله، حتى تحولت إلى أبرز سماته، فنحن في زمن سيطرت السطحية فيه على السياسة والثقافة، ولا يتورع دونو من وصف الحضارة الغربية في لحظتنا تلك (2015)عام إصدار الكتاب، ب«حضارة التفاهة».
في كتابه «نظام التفاهة»، حفر في الأسس الاقتصادية والأكاديمية الجامعية، التي ترتكز عليها تلك الظاهرة، التي دفعت دونو ليفتتح كلامه بالقول: «لقد تبوّأ التافهون موقع السلطة»، هناك قراءة في أساليب تقسيم العمل الجديدة التي أفرزتها العولمة، وما نتج عنها من صعود لدور الخبير ضيق الأفق المتخصص في مجاله، والذي لا يعرف أبعد من قدميه، ويعمل وفق نموذج موضوع سلفاً، في مقابل تراجع لدور المفكر الحر القادر على ابتكار المختلف والمغاير والجديد، وما أدت إليه أيضاً من تحول الحرفة وما ينتج عنها من إتقان ودأب في العمل إلى وظيفة، لا هم لصاحبها إلا تقاضي راتبه آخر الشهر، وهو ما يذكرنا بتنبؤات ماركس لمستقبل النظام الرأسمالي، فالعامل المستلب سيفقد شغفه بمهنته رويداً رويداً.
ويكمل دونو سرده لملامح التفاهة، فالثقافة تحولت إلى ترفيه، واللغة السياسية تميل إلى الميوعة واللاحسم، والتعليم يعطي الأولوية لسوق العمل، ولا يهتم ببناء عقل ووجدان الإنسان، وجنون الاستهلاك في حالة صعود تاريخي غير مسبوقة.
ولكن لماذا لا نكتفي بتحليل مفكرينا العرب ل«التفاهة»؟، وهل في التطرق إلى أطروحة أكاديمي كندي محاولة لتعزية الذات؟. ليس الهدف هنا القول: كلنا شركاء في التفاهة، فالحقيقة أن الوضع في العالم العربي أخطر بما لا يقارن، فتحت أي معيار هناك ميراث قوي من التنوير يمكن معه للآخرين أن يستمتعوا بقليل من «التفاهة»، أما في مجتمعات لم تمر أصلاً بأي مرحلة من مراحل الحداثة، وتخلو في معظمها من العمل المؤسسي الممنهج، ومهددة بقوى التطرف، فسيكون من العبث أن تتمتع بتلك «التفاهة».
هل تسهم دعوات دونو وعشرات غيره في الانتباه إلى تلك الظاهرة، فنحاول مقاومتها، من خلال تحليل مختلف جوانبها أولاً، ومن ثم تقديم رؤى ربما تسهم في بناء جيل مقبل أكثر جدية؟
أمنية لا محل لها على أرض الواقع، فالعملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، والتفاهة سمة ميزت الحضارة دوماً عندما تصل إلى الذروة، هكذا أخبرنا ابن خلدون وعلمتنا قوانين التاريخ.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"