أزمة الكتابة

00:25 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

يبشر بعض المفكرين والمحللين الآن بأفول عصر الكتابة، وبأن البشرية ستعود إلى مرحلة الشفاهية، أي إلى ما قبل التدوين، وهي فكرة فيها نظر كما يقال، ولا يمكن التعامل معها بخفة أو سخرية، انطلاقاً من أن الكتابة سمة إنسانية لا يمكن الاستغناء عنها أو نهايتها.

منذ عدة عقود تنبأ بعضهم بنهاية عصر النخب، وذهب آخرون إلى إعلان وفاة الأفكار الكبرى، وقال فريق ثالث بموت المثقف والناقد، وأكد فريق رابع أن المستقبل للقارئ، وأنه بات شريكاً في النص الذي يطالعه. ولم تمض سنوات طويلة حتى تحققت كل هذه النبوءات، ونحن لا ننتبه إلى أن كل هذه الحقول ترتبط بشكل أو بآخر بالكتابة، هي مجالاتها الحيوية. وإذا شئنا الدقة قلنا إن الكتابة بمعناها النخبوي هي المعرضة أكثر للخطر، وتوجد مظاهر كثيرة تدل على ذلك، فهناك من يتوقع أن الرواية ستتحول قريباً إلى لعبة إلكترونية، وحدث ذلك بالفعل مع بعض الروايات، ولم يعد هناك مسرح مكتوب، بل عروض معدة للخشبة، والشعر في أزمة طاحنة، والفكر في أزمة مماثلة، والصحافة تميل رويداً رويداً إلى التكثيف والاختزال، وهناك النصوص الومضة والكتابات الشذرية، والكتب المسموعة، أي أن هناك مناخاً موجوداً بالفعل تتراجع فيه الكتابة، وبالتبعية القراءة، ويتضاءل المكتوب من حيث الكيف أولاً ومن ثم الكم.

لقد كانت الكتابة تاريخياً عملية طويلة ومعقدة وذات مراحل ولها مفاصل وتحتاج إلى تجارب، بدت عسيرة في أجيال سابقة تعودت على الكتابة الكثيفة منذ مراحل التعليم الأولى، عندما كان المعلم يكلف الطلبة بكتابة درس المطالعة ربما أكثر من مرة خلال العطل الرسمية، وربما كلفهم بكتابة منهج المطالعة بأكمله في العطلات الطويلة، كان ذلك تمريناً على الكتابة، وأفاد الطلاب على أكثر من صعيد، حيث علمهم بعض القواعد اللغوية والنحوية، وجعل ذاكرتهم البصرية تختزن شكل الكلمات، وحسّن خطوطهم إلى حد كبير.

مع تطور التعليم انتهى كل ذلك، وأصبح مثل هذا التقليد ينتمي إلى الماضي أو إلى طرائق التعليم المتخلفة، ولكن كانت الضحية الكتابة، من ناحية الشكل أنتج ذلك كتابات تكثر فيها الأخطاء الهجائية والنحوية، حيث لم تتعود اليد على الكتابة ولا تحتفظ الذاكرة بشكل الكلمة، وكل ذلك انعكس على الكتابة في مواقع التواصل وحتى الكثير من المواقع.

جاء عصر السرعة فانتشرت ظاهرة قراءة العناوين ومقدمات الموضوعات والأخبار، واضطر الكتّاب إلى اختزال ما ينتجونه، ومع عصر مواقع التواصل فضل كُثر مواقع على أخرى لأن عدد الكلمات المسموح به في المواقع الأولى أقل من الثانية، ولم يستوقف ذلك التفضيل أحدهم، لقد كان توجهاً دالاً بأن الخطر لم يداهم الكتابة النخبوية وحسب، ولكنه انتقل حتى إلى ما يمكن تسميته ب«الكتابة الشعبوية»، وهو أمر يؤشر في العمق إلى أمور دالة منها ما يتعلق بالتعليم، ومنها ما يرتبط بانتشار ثقافة «الأيقونات»، التي تغني عن الكثير من الكلمات، ولكن مهما كان السبب، فالمحصلة واحدة، الكتابة في أزمة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3sj9h4kt

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"