مشروع نهضوي للجامعة

00:32 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

في سيرته الذاتية «حياتي» يقارن النهضوي الشهير أحمد أمين بين المدرسة والجامعة، بوصفه قد عمل طوال حياته متنقلاً بين هاتين المؤسستين، فالمدرسة تُعلم ما في الكتب، والجامعة تدرس الكتب لتستخرج منها الجديد، والمدرسة تُعلم آخر ما وصل إليه العلم، والجامعة تحاول أن تستكشف المجهول، تحلل وتنقد أحدث النظريات لتهدم قناعة أو رأي وتبني فكرة أو أطروحة جديدة، ومن دون هذه الوظيفة لا تعدو الجامعة إلا أن تكون مجرد مدرسة.

كانت الجامعة مشروع النهضويين الأول، آمنوا بأنها قاطرة التقدم، وأنها مختبر لحل مشكلات المجتمع كافة، فهي تمتلك من الأدوات والتقنيات ووجهات النظر ما يمكنها من تجاوز العقبات، وأن الذي يلتحق بها ويتخرج حاملاً درجة في أحد تخصصاتها لابد أن يكون شخصاً مميزاً، مختلف العقلية، ويمتلك رؤيته الخاصة للعالم، ويتمتع بثقافة واسعة ومتعددة، ويلم بشيء عن كل شيء في الحياة فضلاً عن إحاطته بمفاصل تخصصه المختلفة.

لم يكن سوق العمل فكرة مطروحة آنذاك، بمعنى أن خريج الجامعة في أي تخصص لم يكن معنياً بالتفكير في وظيفة سيلتحق بها، فهذه الوظيفة كانت غالباً مضمونة، وبالتالي لم تكن اشتراطات سوق العمل وضغوط الحياة تشغل الدارس، كما نشاهد الآن، كما أنها لا تهيمن على القائم على الجامعة فتجعله يطّوع بعض التخصصات بما يناسب تلك السوق أو يلغي بعض التخصصات الأخرى، أو يوسع نوعية ثالثة من التخصصات نتيجة لزيادة الطلب عليها.

كان خريج الجامعة أيضاً شخصاً معداً لخوض الحياة، تم تأهيله معرفياً بحيث يمتلك رأياً في الكثير من القضايا، وعلى معرفة بتاريخه ولغته مهما كان تخصصه، ويميل إلى القراءة ويستطيع الكتابة الجيدة، وهو ما نفتقده اليوم كثيراً، وكانت الجامعة نفسها لا تقيم هذا الفصل الحاد بين العلوم الإنسانية ونظيرتها التطبيقية. وفي دراسة أجراها أحد مراكز الأبحاث في حقبة التسعينات من القرن الماضي تبين أن أكثر الطلاب الذين ينتمون إلى تيارات متطرفة هم من يدرسون تخصصات علمية تطبيقية، لا تضم الأدب أو التاريخ أو علم النفس أو الاجتماع، فهذه الحقول الأخيرة ترتقي بوعي الإنسان و تمنحه هبة الحوار والنقاش مع الآخر، كما أنها تنشط ذائقته الجمالية.

خلال عقود طويلة في القرن العشرين استطاع الكثير من الجامعات العربية أن يقوم بمهام لا تستطيع جهة أخرى القيام بها، منها التأليف الموسوعي في حقول مختلفة، سواء أكانت موسوعات جماعية أو فردية، بل وطمح البعض في تعريب بعض العلوم وحلم البعض الآخر بتأسيس علوم إنسانية بنكهة عربية مثل فلسفة عربية أو مناهج عربية في دراسة التاريخ، أي إن الجامعة كانت تدرس الكتب لتستخرج منها الجديد، وفق مقولة أحمد أمين السابقة، ولم تكن الجامعة معزولة عن المجتمع أو سوق ربحية لصناعة الباحثين عن علم، ولم تُكتب الرسائل العلمية لمجرد الترقي الوظيفي، ولكن لتقديم إضافة حقيقية للعلم.

هل نقول إن جامعاتنا تحتاج الآن إلى مشروع نهضوي جديد ينقذها من الشكل المدرسي الذي بات يهيمن عليها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/52nf9zue

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"