بين مرحلتين من الثنائيات

00:23 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

نشأ المثقف العربي الحديث مرتبطاً بالكثير من الثنائيات: الماضي والحاضر، التراث والعصر، الأنا والآخر..الخ، حيث تسببت صدمة مدافع نابليون خلال الحملة الفرنسية بأن تعي الذات الحضارية نفسها من خلال نقائضها أو ما يبدو ظاهرياً أنه يتناقض معها، ما أدى إلى بروز مشكلة الثنائية في الفكر العربي الحديث، من خلال معادلة قتلت بحثاً كيف نوفق بين الراهن ومستجداته والماضي وما نتج عنه؟ وكيف نتعامل مع ما يأتي إلينا من الآخر من دون أن نفرط في قيم الذات الأصيلة؟ هذا فضلاً عن السؤال الإشكالية: لماذا تقدم غيرنا وتخلفنا عن الركب الحضاري؟

لم تكن تلك الثنائيات بهذه البساطة وذلك الوضوح، بل تطورت من شكلها الأولي وتراكمت، فمثلاً فرض الواقع وتعقيداته وتطوراته المتلاحقة الخيار بين ما تركه لنا الأسلاف، ماذا نأخذ وماذا ننحي من تراثهم؟ فأصبح لدينا أكثر من تراث وأكثر من ماضٍ، والأمر نفسه تكرر في مواجهة العصر، ما الذي يناسبنا من أفكار واختراعات الآخر وأيضاً من إرثه؟ فأصبح لدينا أكثر من ماض- ذات، وأكثر من آخر –عصر، وتساءل البعض عن أي أنا نتحدث حين نتكلم عن أنفسنا؟ ومن هو الآخر الذي نعنيه عندما ننظر إلى بقية العالم؟

ونتيجة لكل ذلك الزخم وتلك الأسئلة تأسست تيارات فكرية: تصارعت، اتفقت واختلفت، توحدت وانقسمت، تخاصمت وتصالحت، ولكنها لم تكن يوماً بدورها واضحة، بمعنى أننا لا نجد من نطلق عليه كلاسيكي مئة في المئة، أو حداثي يعبر تماماً عن الحداثة، تداخلت الحدود واختلطت بفعل تركيبة الواقع نفسها الذي يمزج تلقائياً بين ما ورثناه وما نعيشه من أفكار ومنتجات العصر.

هذه الحالة لم تنته بدورها يوماً، فلم يستطع أي تيار ولم يدع أي مثقف أن هناك إمكانية للحسم داخل أي ثنائية، وبعد أن أفنى البعض عقوداً طويلة في المراوحة وإنتاج تركيبات فكرية مختلفة، توقف معظم المثقفين العرب عن التعاطي مع تلك الثنائيات، ما أعطى انطباعاً بأن المسألة حُلت مع الوقت أو انتهت، وهو وهم خادع فالأفكار لا تموت ولا تستطيع أن تنتج مركبات فكرية جديدة من تلقاء نفسها، كل ما حدث أن الجميع قد أصابه الضجر.

إن معظم الثنائيات التي واجهتنا منذ أكثر من قرنين لا تزال هي نفسها لم تتغير وإن اتخذت أشكالاً أخرى، فالآخر يأتي تحت مسمى العولمة أو الليبرالية الجديدة، وعلينا أن نختار: أي آخر يمكننا التعاطي معه والأخذ منه، فهناك الغرب الاستعماري والغرب المتنور والغرب التكنولوجي والغرب المصحوب بريح العولمة..، أي أن ثنائياتنا التقليدية لا تزال فاعلة، وأضيفت إليها ثنائيات أخرى، مثل الواقع، والواقع الافتراضي، قضايا الهجرة وما يتمخض عنها من تناقض بين الوافدين الجدد وثقافة المجتمعات التي يهاجرون إليها، وهناك قضايا المناخ والمراوحة الدائمة بين عالمي الأغنياء والفقراء، ولكن الفارق بين ثنائيات الأمس واليوم، أن الأولى أنتجت زخماً وفكراً فاعلاً وأدبيات يشار إليها بالبنان، أما الثنائيات الجديدة فتنتظر عودة عمل آلة الفكر المعطلة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yn98etd8

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"