بورقيبة وقضايا التحول الاجتماعي

02:47 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

سوف تظل شخصية الحبيب بورقيبة - بطل الاستقلال في دولة تونس - شخصية مثيرة للجدل لم تنل حظها من الدراسة، فضلاً عن أنها لم تحظَ بتكريم يتناسب مع ما قدمه ذلك الزعيم الذي كان سابقاً لعصره واسع الأفق بعيد النظرة، وذلك لا ينفي أنه كان لديه شطحات يصعب فهمها أو القبول بها، ولكنه في عمومه استطاع أن يجعل من تونس نموذجاً مختلفاً في ما يتصل بقضايا تمكين المرأة وتعدد الزوجات والطلاق المقنن، فضلاً عن فهم خاص لمقاصد الشريعة الإسلامية قد لا نوافقه في كل ما ذهب إليه، ولكننا لا ننكر عليه أنه كان رائداً اجتماعياً، وليس مجرد زعيم سياسي أو بطلاً للاستقلال.
وما زال الكثيرون يتندرون بمحاولته دخول مصر من حدودها الغربية في أربعينات القرن العشرين عبر مدينة (السلوم)، وكيف أن الجندي الذي استقبله قد سخر من اسمه، فهو لا يعرفه من قبل وعندما قال له «بورقيبة»: إن مرتبته في بلاده تعادل سعد زغلول أو مصطفى النحاس استغرق الجندي في ضحكاته، وكاد يعيده من حيث أتى وقد ظل الحبيب بورقيبة يتذكر هذه القصة التي لا تنسى. وقد تأثر بالمدرسة الفرنسية في الفكر والثقافة، وظل وفياً لها في أعماقه كما كانت زوجته الأولى فرنسية، وهي أم الحبيب بورقيبة الابن الذي كان وزيراً في بلاده قبل أن يعود إلى فرنسا، ليقضي هناك معظم سنوات عمره، وقد تزوج من السيدة وسيلة بن عمار، وكانت قوية الشكيمة شديدة التأثير إلى أن دخلت في صراع مع ابنة أخته السيدة سعيدة، فضلاً عن علاقاتها الوثيقة بالقيادات الفلسطينية التي كانت موجودة على أرض ذلك البلد العربي المتميز. وقد أطاح بورقيبة بزوجته وسيلة، في انقلاب عائلي داخل القصر، وأبعدها عنه إلى أن نجح زين العابدين بن علي في الإطاحة به هو الآخر في نوفمبر 1987، وأبعده إلى مدينته الأصلية، ليقضى سنوات الشيخوخة المتأخرة في عزلة، مع اعتراف من الجميع بأنه أب التوانسة وبطل التحرير، وهنا نركز على قضيتين أساسيتين ترتبطان بشخص بورقيبة:
الأولى: تتصل بزيارته إلى القاهرة عام 1965 ولقائه الرئيس عبد الناصر الذي احتفى به في البداية حتى منحته جامعة القاهرة درجة الدكتوراه الفخرية، وقد كنت يومها طالباً في الجامعة، وشهدت تلك المناسبة في قاعة الاحتفالات الكبرى، وما إن غادر بورقيبة مصر حتى أدلى بتصريحات «أريحا» الشهيرة التي طالب فيها بالتدرج في حل المشكلة الفلسطينية، مؤكداً مبدأ «خذ وطالب»، ووقع يومها تحت طائلة الإعلام المصري القوي حينذاك الذي هاجم بورقيبة هجوماً عنيفاً، واعتبره متنكراً لثوابت القضية الفلسطينية. وما زلت أتذكر عنوان مقال هيكل الأسبوعي «بصراحة» في «الأهرام» وكان هو «لغز سي الحبيب»، وأنا أظن الآن بعد سنوات طويلة أن الحبيب بورقيبة لم يرتكب جرماً، ولكنها كانت وجهة نظر تستحق النقاش ولا تستدعي الهجوم، ومع ذلك فإن لكل أوان أفكاره وأطروحاته وفقاً لروح العصر ومقتضيات الزمان.
أما القضية الثانية: فهي فهمه الخاص للإسلام وأركانه،حتى إنه أباح إفطار رمضان، وحاول أن يتقدم بمفهوم عصري لروح الإسلام، خصوصاً في ما يتصل بالإسلام وعلاقته بالتطور الاجتماعي، ولقد سمعت من زعيم الإخوان المسلمين هناك راشد الغنوشي على مائدة غداء بدعوة منه في تونس بعد ما يسمى «الربيع العربي» قوله: «إن الإخوان المسلمين لا يعارضون أفكار بورقيبة، ويعترفون بإنجازاته، ويتفهمون قراراته في هذا السياق، ولقد كان بحق سابقاً لعصره»، ولقد لاحظت أن هناك تداخلاً بين التيارات الفكرية والمواقف السياسية لدى عدد من القيادات التونسية، وأتذكر أنني تناولت الغداء على مائدة الرئيس التونسي الأسبق منصف المرزوقي في القصر الجمهوري من خلال علاقته الوثيقة بالصديق السفير قيس العزاوي أمين عام مساعد جامعة الدول العربية حالياً، وذلك في إطار الصالون الثقافي العربي الذي أتشرف برئاسته، وتحدث يومها الرئيس المرزوقي عن تقديره لعبد الناصر وتاريخه، حتى إن صديقنا الأستاذ الكبير محمد الخولي قد اعتدل في جلسته وأصابته نشوة شديدة بسبب عشقه المعروف للزعيم العربي الراحل، والغريب أننا اكتشفنا في ما بعد أن منصف المرزوقي الذي كان لاجئاً سياسياً في فرنسا في فترة حكم بن علي، وهو مثقف تونسي كبير له أيضاً امتدادات فكرية لا تبتعد كثيراً عن بعض توجهات الإخوان المسلمين، وتتلامس أيضاً مع بعض أفكار اليسار الفرنسي، وهذا التشابك الفكري في ظني ظاهرة إيجابية يتمتع بها التونسيون الذين يجب أن يذكروا وأن نذكر معهم فضل الحبيب بورقيبة الذي يحتاج إلى شيء من رد الاعتبار بعد سنوات طويلة من رحيله، ويذكرني ذلك بنماذج للاختلاف عن التيار العام والتغريد خارج السرب، وأتذكر زعيماً سياسياً اختلف مع سعد زغلول قائد ثورة عام 1919، ورمزها الأول، وأعني به عدلي يكن، وتوجهاته المعتدلة في المفاوضات مع الإنجليز من أجل الاستقلال، بينما شعارات الوفديين تقول: «الاحتلال على يد سعد ولا الاستقلال على يد عدلي».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"