تحريك الزمن الذي توقف

04:23 صباحا
قراءة 3 دقائق

في حياة الأفراد، مثلما في حياة الأمم والمؤسسات والثورات، يمكن أن تتحكم ظاهرة توقف الزمن ودورانه حول نفسه، يعيد ويكرر ذاته، إلى أن يصبح الحاضر هو التاريخ والمستقبل هو الحاضر. من هنا فإن خطاب الصهيوني نتنياهو الأخير وتوجهات كتلته اليمينية العنصرية لإنهاء الوجود العربي الفلسطيني في كل أرجاء فلسطين المحتلة ورد الفعل العربي والدولي والفلسطيني الرسمي المائع تجاه كل ذلك يصب في تكريس ظاهرة توقف الزمن. إنه يكمل دورة دوران الزمن الفلسطيني حول نفسه ويعيده إلى المربع الأول في قصة الصراع العربي والإسلامي ضد الفكر والوجود الصهيوني.

وخطاب نتنياهو ليس إلا قمة وفجيعة ظاهرة ذلك الدوران، ذلك أنه عبر قرن كامل من زمن ذلك الصراع لم يفعل الفلسطينيون والعرب إلا إعادة وتكرار واجترار نفس المآسي والفواجع والبلادات والخيانات التي طبعت مسيرة الوجع الفلسطيني في حياة أمة العرب.

إذا أراد العرب أن يفهموا معنى ظاهرة توقف الزمن فليقرأوا في كل ليلة قصة من قصص أبطال وأناس وخونة وسفلة ملهاة الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله في روايته الملحمية زمن الخيول البيضاء. فكل ما تذكره الرواية، التي تؤرخ لفترة ما بين بداية القرن الماضي ومنتصفه، عن حكاية قرية (الهادية) مع الدير الذي خدع فلاحيها ومع المستوطنة الصهيونية التي خنقتها وأذلت ساكنيها ومع السلطات الانجليزية التي تآمرت مع كل انتهازي خوّان من أجل إركاعها، تحياه اليوم قرية (فلسطين). تغيرت الأسماء والعناوين والسبل ولكن الرواية، روحاً ومعنى وعبرة، لم تتغير.

فإذا كان الدير قد خدع فلاحي قرية (الهادية) وسلبهم معظم أراضيهم دون أن يعوا ما الذي حدث وكيف حدث، فإن بريطانيا أولاً، ثم أمريكا، ثم الغرب كله قد خدع قرية (فلسطين) وسلب أهلها، بكل أنواع الخديعة والحيل والمسميات والتبريرات، أغلب أراضي ساكنيها. وها هو اليوم يعرض عليهم الاكتفاء بما لن يزيد على عشرة في المائة من أرضهم وأرض أجدادهم عبر القرون.

وإذا كان القائد العام للثورة الفلسطينية فوزي القاوقجي أصدر في أكتوبر 1936 البلاغ رقم 16 القائل: تلبية لنداءات ملوكنا وأمرائنا العرب ونزولاً على طلب اللجنة العليا العربية، نطلب توقيف أعمال العنف تماماً وعدم التحرّش بأي شيء يفسد جو المفاوضات التي تأمل فيها الأمة العربية الخير ونيل حقوق البلاد كاملة، والذي أوقف نمو الثورة الفلسطينية، وصب عليها الماء البارد، وكان بداية للانقسامات داخل الثورة. فما الفرق بين ذاك البلاغ وبلاغات قاوقجيي السلطة الفلسطينية التي أوقفت الانتفاضات الفلسطينية المرة تلو الأخرى، واليوم تصدر البلاغات لإنهاء كل مقاومة فلسطينية، وذلك باسم قادتها وباسم المسؤولين العرب وباسم اللجنة الرباعية الدولية؟

وإذا كان أشخاص من أمثال فخري النشاشيبي قد قاموا بتنظيم اجتماعات شعبية عامة تدعم فصائل السلام وتناوئ الثورة وتطارد فلول قواتها في الثلاثينات من القرن الماضي، فكم نشاشيبي من بين المسؤولين وغير المسؤولين الفلسطينيين يقوم اليوم بالدور نفسه فيدعم فصائل السلام البائس المطلوب ويضع في السجون، وبالتنسيق مع الأمن الصهيوني، الألوف من المؤمنين بالمقاومة؟

وإذا كان أحدهم قد كتب لمسؤول بريطاني رسالة يقول فيها: لقد عيّنت أبناء الذوات في الوظائف، وأجلست أبناء العائلات على الكراسي... فارتبطوا بالسلطة ارتباطاً مادياً، وستذكر أياديك البيضاء عليها، فما الفرق بين ذاك وما تفعله أمريكا والاتحاد الأوروبي وبعض دول العرب الغنية من خلق الوظائف والكراسي لهذا الفلسطيني أو ذاك؟

وإذا كانت قرية (الهادية) قد اقتحمتها العصابات الصهيونية وأمعنت فيها قتلاً وحرقاً ورعباً، بعد أن خذل أهلها جيش الإنقاذ العربي الشهير، فإن قرية (غزة)، قد دكتها الآلة العسكرية الصهيونية ودمرت وقتلت بعد أن خذلتها جيوش العرب وقيادات العرب، وهي اليوم محاصرة وجريحة.

وحتى نصيحة بن غوريون بأنه لو كان عربياً لما وقّع على اتفاق مع اليهود، سراق الأرض، تهملها كل الأطراف العربية اليوم، فتوقع، ولا تشبع من التوقيع.

كل شيء حدث في رواية إبراهيم نصر الله في المنتصف الأول من القرن الماضي تكرر بفجيعة المأساة في النصف الثاني من القرن الماضي. واليوم عندما يستمع الإنسان لخطاب نتنياهو المليء بالكذب على التاريخ والواقع وكل المبادئ الإنسانية، ويشاهد الساحة الفلسطينية بانقساماتها وخياناتها وبلاءاتها، ويرصد العجز العربي الرسمي وهو يعالج القضية الفلسطينية.. عندما يفعل الإنسان ذلك يدرك كم أن الزمن قد توقف عند أبطال الملهاة الفلسطينية. نحن نحتاج إلى أن نقرأ تلك الرواية كل ليلة ونبكي دماً فلعلنا نستطيع أن نحرك الزمن الذي توقف.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"