تصحيح اقتصادي عالمي

01:26 صباحا
قراءة 3 دقائق
لم يكد الشهر الأول من العام ينتصف حتى بدأت ملامح وضع الاقتصاد العالمي، وفي مقدمه الاقتصاد الأمريكي، تتبدى علاماتها. وتبدو دورة النمو المتصل وقد وصلت الى نهايتها وبدأ منحنى التراجع الذي ستتباين درجاته. فالاقتصادات الصناعية الرئيسية الكبرى اخذت في التباطؤ بالفعل، واحتمالات الركود في أكبرها الاقتصاد الأمريكي كبيرة. وربما تستفيد الاقتصادات الصاعدة سريعة النمو، كالصين والهند، بتوقف الغليان فيها. ويمكن التعامل مع تلك التوقعات باعتبارها تصحيحا طبيعيا، قياسا على دورات سابقة في الاقتصاد العالمي، وحتى يبدو التصحيح هذه المرة اقل حدة. الا ان مؤشرات كثيرة تجمعت في الآونة الأخيرة تدل على أن التصحيح قد لا يكون سريعا، وربما يؤدي الى تغيرات هيكلية وطويلة الامد. لنأخذ على سبيل المثال ارتفاع سعر الذهب الى مستويات قياسية واستمرار تراجع سعر العملة الأمريكية، الدولار، لمستويات قياسية أيضا. فأونصة الذهب تجاوزت تسعمائة دولار أمريكي ويتجه نحو مستوى الألف دولار، والدولار يتراجع أمام الين واليورو ويقترب من حاجز دولار ونصف الدولار لليورو. ومع ان المضاربة على الذهب وبيع الدولار بكثافة في الايام الاولى من العام تعود لاسباب موسمية، إلا انها ذات دلالة مهمة اذا وضعت جنبا الى جنب مع مؤشرات اخرى.لا شك ان نتائج الربع الرابع التي بدأ الاعلان عنها هذا الشهر جعلت المستثمرين وصناديق التحوط والصناديق الخاصة والسيادية تهجر اسهم الشركات وتقبل على شراء الذهب والعقود الآجلة للسلع الزراعية والغذائية التي شهدت اسعارها ارتفاعا مضطردا كذلك. كما ان استمرار الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأمريكي في خفض سعر الفائدة يجعل المتعاملين يبيعون الدولار ويشترون عملات رئيسية اخرى. وتبدو الاسواق متحفظة بشأن الآثار السلبية الكاملة لأزمة انهيار قطاع العقار الأمريكي، واحتمالات ان تحذو اسواق عقار أوروبية وغيرها حذوه بدرجة أو بأخرى، التي قد تأتي بالمزيد من الاسوأ. وما زال القطاع المصرفي العالمي يعاني من ازمة انكماش ائتماني بسبب الانكشاف على القروض العقارية الرديئة في السوق الأمريكي. ويظهر ذلك بجلاء في شطب البنوك الرئيسية في العالم مثل سيتي غروب وميريل لينش وجيه بي مورغان لمليارات الدولارات ديونا معدومة، وتسوقها للتمويل من الصناديق الخاصة والسيادية نتيجة صعوبة الاقتراض في السوق المصرفي.ويصعب تحديد قمة منحنى ارتفاع سعر الذهب، وقاع منحنى هبوط سعر الدولار، الذي يمكن عنده حسم مسألة عودة الاسواق العالمية لاعتبار الذهب معيار القيمة والثروة بدلا من الدولار. لكن اذا اخذنا التجارب السابقة في الاعتبار يمكن توقع قرب ذلك، إذ ساد الذهب بعد الحرب العالمية الأولى الى منتصف السبعينات، ثم ساد الدولار منذئذ حتى الآن. واذا كانت ازمة مؤسسات بريتون وودز (البنك وصندوق النقد الدوليين) في منتصف السبعينات قادت الى ما عرف باجماع واشنطن، على اعتبار العملة الأمريكية معيارا للقيمة في الاسواق العالمية، فإن التغيرات المتوقعة في الاقتصاد العالمي قد تؤدي الى توافق جديد، لا يعني بالضرورة العودة لقاعدة الذهب.وبغض النظر عن حركة اسعار السلع والعملات والأسهم، لا يمكن تجاهل الوضع غير المطمئن للاقتصاد الأمريكي الداعم الرئيسي للدولار والذي يحفظ له مكانته العالمية تلك. وهنا مشار الى تلميح عدد من مؤسسات التصنيف الدولية الى احتمال قيامها بخفض تصنيف الدين الأمريكي، بما يعني نهاية القاعدة الذهبية للمستثمرين في العالم باللجوء الى سندات الخزانة الأمريكية كوسيلة تحوط باعتبارها الاكثر أمنا. وربما ذلك ما جعل مؤسسات التصنيف محل حملة بدأت تتصاعد من الحكومات الرئيسية في الغرب تطالب بضرورة اخضاعها لقواعد تنظيمية وقوانين حكومية جديدة يجري العمل عليها، واتهامها بأنها صاحبة مصلحة فيما تصدره من تصنيفات وتقييمات بمعنى اتهامها بأنها مغرضة وغير محايدة.وسواء كان لتقييمات وتصنيفات تلك المؤسسات القدر ذاته من المصداقية لدى متخذي القرار الاستثماري ام لا، فإن أحدا لا يستطيع تجاهل المؤشرات على ان الاقتصاد الأمريكي لم يعد المنافس الاكبر، وتحديدا الافضل، في سوق الاستثمارات العالمية. واذا اهتز ذلك الرافد الرئيسي لتمويل اختلالات الاقتصاد الأمريكي سيصبح من الصعب على الأمريكيين الاستمرار بذات الدرجة من التوسع الاقتصادي الممول بدين خارجي يتجاوز ملياري دولار يوميا. ومن هنا بالتحديد يمكن تصور التصحيح الاقتصادي العالمي الآن اوسع نطاقا من مجرد نهاية دورة اقتصادية وبداية دورة جديدة. محلل اقتصادي
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"