رؤساء مصر وشيوخ الأزهر

04:48 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. مصطفى الفقي


الأزهر الشريف محل توقير وتقدير، كما أن شيخه محل إجلال واحترام، خصوصاً إذا كان رئيس الدولة تقياً نقياً في مثل الحالة المصرية الآن.
إن العلاقة بين السلطتين الزمنية والروحية مرت في تاريخ البشرية بمراحل متعددة، بدءاً من دمجهما في صورة «الملك الإله» وصولاً إلى الصدام أثناء العصور الوسطى في أوروبا يوم أن جثا أحد الأباطرة على ركبتيه أمام مقر البابا طالباً المغفرة والبركة، ولم يكن السبب في ذلك خضوع الإمبراطور للسلطة الدينية، بقدر ما كان يعلم أن الطريق إلى قلوب الناس يمر بأبراج الكنائس ومآذن المساجد. فالدين هو أبسط الأيديولوجيات أمام البشر، وهو يبدأ معهم من الطفولة؛ بل يرون فيه امتداداً لما فعله الآباء والأجداد. إننا نتذكر أن الإسكندر الأكبر عندما وصل إلى الشاطئ المصري للبحر المتوسط، تفهم الديانة المصرية وحاول المزاوجة بينها وبين الديانة اليونانية التي جاء بها، إلى أن أدرك أن الوصول إلى قلوب المصريين يمر بآلهتهم، فسعى إلى معبد آمون في سيوه حتى يكون ابناً للإله وقريباً من ديانة المصريين حينذاك، كما أن نابليون بونابرت عندما وفد إلى مصر على رأس حملته وجد في طريقه من يعد له منشوره الشهير الذي يتودد فيه إلى المصريين، معلناً احترامه للإسلام ساعياً إلى تخليصهم من سطوة العثمانيين وبطش المماليك، فقد أدرك مستشاروه أن الطريق إلى قلوب المصريين يمر بدينهم.
وفي مصر الإسلامية ومنذ قيام الأزهر الشريف لم تحدث صدامات حقيقية بين الحاكم وشيخ الأزهر واستقراء ذلك في العقود الأخيرة يؤكد هذا المعنى، إلا ما يشاع أحياناً بغير سند تعبيراً عن خيال مريض يصنع الأوهام ويتصور خلافاً غير موجود. وقد أجلى حلمي النمنم وزير الثقافة السابق في مقال أخير العلاقة بين الملك فاروق والإمام الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي، الذي تولى منصب المشيخة مرتين وكان له دور ملموس ومحسوس في الحياة العامة مفنداً الادعاء بأن فاروق قد طلب من الإمام الأكبر (وهو ليس مصدراً للفتوى) بأن يمنع طليقته الملكة فريدة من الزواج بعده، والقصة والرواية كاذبة من أساسها فقد مات المراغي قبل الطلاق بسنوات ثلاث، ولم يكن الأزهر طرفاً في هذا الهراء من قريب أو من بعيد، كما أن أحد شيوخ الأزهر العظام وأظنه الشيخ عبد المجيد سليم هو من قال منتقداً رحلات الملك إلى أوروبا: «تقتير هنا وتبذير هناك!». وأحسب أيضاً أن أحد مشايخ الأزهر الكبار انتقد إعلان مصر الحرب مع الحلفاء ضد دول المحور، وقال قولته الشهيرة: «إنها حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل». والخلاصة أن شيوخ الأزهر في العصر الملكي امتلكوا القدرة على إبداء الرأي والابتعاد عن مواطن الزلل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، إلى أن قامت ثورة يوليو 1952 وتقلب على المنصب الأزهري الرفيع علماء أفاضل، منهم أزهري تونسي من أصل جزائري هو الشيخ الخضر حسين، وقد كان ذلك تأكيداً لأممية الأزهر الشريف باعتباره جامعة إسلامية كبرى ومستقراً لأتباع مذهب السنة في العالم كله، ثم كان هناك الشيخ عبد الرحمن تاج، كما أن أحد شيوخ الأزهر قبل ذلك أيضاً بعقدين أو أكثر كان هو الشيخ حسونة النواوي والد عبد الخالق باشا حسونة محافظ الإسكندرية، ووزير الخارجية وأمين عام جامعة الدول العربية لما يقرب من عشرين عاماً.
والحق يقال إن المناخ الليبرالي قد أعطى الأزهر في مرحلة معينة قبل ثورة يوليو 1952 قدراً من المرونة، بدءاً من الشيخ محمد الخراشي الذي كان يلوذ به الناس، وصولاً إلى كل من سبقوا ثورة يوليو من مشايخ الأزهر الشريف، وأتذكر الآن الإمام الأكبر الشجاع ابن البحيرة الشيخ محمود شلتوت الذي جاء من محافظة قدمت نسبة عالية من رجال الأزهر الشريف، بدءاً من الإمام محمد عبده، وصولاً إلى مشايخ كبار من أمثال حمروش وعبد العزيز عيسى، ومحمد مدني ومحمود حب الله.
وعلى الرغم من أن الإمام المجدد لم يتول مشيخة الأزهر ومات وهو في منصب الإفتاء، فإن اسم محمد عبده يبقى في تاريخ الإسلام ساطعاً ومشرقاً، وإن كانت آراؤه العامة أكثر تحرراً من فتواه الدينية. كما أن الشيخ شلتوت هو صاحب الفتوى الشهيرة للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وعندما جاء الشيخ الفحام بتوصية من والد الرئيس عبد الناصر الذي كان صديقاً له، كان هو الذي صلى على الزعيم يوم وفاته، وهو الذي استقبلته الجزائر الرسمية بأقل مما يليق كرسالة فهمها الرئيس السادات وأصدر بها قراره الجمهوري باعتبار شيخ الأزهر تالياً في بروتوكول الدولة بعد رئيس الوزراء. الواقع أن شيوخ الأزهر يحتلون مساحة كبيرة من احترام رؤساء مصر في العقود الأخيرة، وحتى علماء الأزهر الذين لم يتولوا المنصب الكبير ينالون قدراً كبيراً من احترام رئيس الدولة مثلما كان الأمر مع الشيخين الشعراوي والغزالي.
إن الأزهر الشريف محل توقير وتقدير، كما أن شيخه محل إجلال واحترام، خصوصاً إذا كان رئيس الدولة تقياً نقياً في مثل الحالة المصرية الآن.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"