ركائز القوة الاقتصادية

02:23 صباحا
قراءة 5 دقائق
هنالك في الواقع قوتان اقتصاديتان ناضجتان في العالم هما الولايات المتحدة والوحدة الأوروبية ضمن منطقة اليورو وخارجها. في سنة 2015، بلغ الناتج الفردي الأمريكي 56 ألف دولار مقابل 47 ألف دولار لألمانيا، 41 ألف دولار لكل من فرنسا وبريطانيا و36 ألف دولار لإيطاليا. الناتج الفردي الياباني كان في حدود 32 ألف دولار، وبالتالي ما زال أدنى بالإضافة إلى أن مسيرة اليابان الاقتصادية تبقى متعثرة خاصة في نسب النمو التي تبقى عموماً أقل من 1% وأحيانا سلبية. الدول النشيطة الأخرى كالصين والهند والبرازيل وغيرها لا يمكن مقارنتها بأمريكا وأوروبا، لا من ناحية النضوج ولا من ناحية توزع الثروة والدخل والتنمية داخلها. أرقام الناتج مهمة لكن يمكن أن لا تكون صحيحة كليا لأنها ربما تتجاهل نوعية السلع والخدمات المنتجة وتغيرها مع التكنولوجيا، بل تقتصر فقط على القيمة. تتجاهل هذه الأرقام أيضا تأثير وأهمية السلع والخدمات على حياة المستهلك، وهذا ما ذكرته دراسات متنوعة ركزت على التأثير الكبير لمعنويات المستهلكين بالإضافة إلى قدرتهم الشرائية على مجموع الطلب.
مستوى الناتج الفردي الأمريكي أعلى من الأوروبي كما أن نسب النمو في الولايات المتحدة هي عموما أعلى من المعدل الأوروبي. ما هي الأسباب تبعاً للاقتصادي «مارتن فلدستين» الذي يدرس الموضوع منذ عقود كما وضع كتابات ودراسات في غاية الأهمية ليس فقط للمجموعتين الناضجتين وإنما للعالم أجمع. الأسباب تشير إلى دروس كبيرة لا بد من تحليلها والسعي إلى تطبيقها في الاقتصادات النامية والناشئة ومن بينها دولنا العربية.
أولا: ثقافة الأعمال الأمريكية التي تشجع على الإنتاج والنجاح مما يرفع الدور الذي تلعبه الشركات في المجتمع مقارنة بأوروبا. الشركات الأمريكية تساهم كثيرا في نهوض المجتمع وأهم مثال هو صندوق «جايتس» مؤسس «مايكروسوفت» الذي يقوم بأعمال كبيرة خيرية في كل أنحاء العالم. القيود على أعمال الشركات التجارية والاستثمارية هي أقل في أمريكا، بالرغم من أن ملاحقة التهرب الضرائبي أقسى بكثير في الولايات المتحدة. الحجم النسبي للقطاع العام هو أقل في أمريكا نتيجة القناعة الراسخة بالاتكال على النشاط الخاص في كل الميادين بما فيها الصحة. دول الرعاية الأوروبية إنسانية أكثر بكثير مما يؤثر سلبا على أرقام النمو. هنا تكمن أهمية استفتاء الشعوب بين الرعاية والنمو، أيهما يفضلون؟
ثانيا: النظام المالي الذي يحتوي على وسائل وأدوات وقوانين وتشريعات تناسب الشركات والمستثمرين أكثر بكثير مما هو الحال في أوروبا. الأسواق المالية الأمريكية متطورة أكثر. هنالك تمويل متوافر بسهولة أكبر للشركات الصغيرة والمتوسطة كما للمبتدئين تسمح لهم جميعا بالنجاح بسرعة وسهولة أكبر في الحياة العملية.
ثالثا: وجود جامعات ومختبرات ومعاهد أمريكية تقوم بأهم الاكتشافات والبحوث في العالم في كافة الأقسام. أكثرية حاملي جوائز نوبل هم أمريكيون ليس بالضرورة أمريكيو المولد، وإنما هاجروا إلى أمريكا وتعلموا وعملوا فيها ونجحوا. يقول الاقتصادي الكبير الراحل «وليام بومول» إن الفارق بين الدول الناجحة وغير الناجحة هو حسن استعمالها للتكنولوجيا. يقول بومول إن خطأ بعض التشريعات هو اعتبار الإنسان الكفؤ عامل إنتاج جيدا وليس عبقريا محتملا. فنوعية الحوافز الرسمية تدفع الإنسان إما نحو الوظيفة العادية أو باتجاه الإبداع كما فعل «بيل جايتس» و«ستيف جوبز» وغيرهما.
رابعا: أسواق العمل التي تتمتع بالمرونة والقيود الخفيفة في أمريكا مقارنة بأوروبا. دور النقابات أقل بكثير في أمريكا وبالتالي تأثيرها على الحياة السياسية والاقتصادية أكبر بكثير في أوروبا. هنالك ثقل كبير موروث للعمال في أوروبا منذ عقود ما زال موجودا وإن خف نتيجة فشل بعض النقابات في الحفاظ على حقوق العمال والدفاع عن الفقراء.
خامسا: استيعاب المهاجرين كان أسهل بكثير في أمريكا سابقا، وليس من المتوقع أن يستمر مع ترامب الذي يتحرك عكس السير والمنطق والتاريخ بل عكس المستقبل. أمريكا دولة الاستقبال والهجرة نجحت بفضلهم، ومحاولة الإقفال البشري اليوم ستضر بمصانع وجامعات وشركات أمريكا أكثر مما تتصوره الإدارة الأمريكية الحالية.
سادسا: تحتوي أمريكا على طاقة كبيرة بدءً من النفط وبالتالي هي مستقلة اقتصاديا أكثر بكثير من أوروبا. استعمال الفحم والنفط سبب تلوثا كبيرا في كل دول العالم مما فرض توقيع اتفاقيات بهذا الشأن تصب في مصلحة المستقبل. خروج ترامب من اتفاقية باريس محزن ليس للعالم فقط وإنما خاصة لأمريكا وللأجيال المستقبلية. سيخفف هذا الخروج من حماسة الشركات على إيجاد بدائل غير ملوثة للطاقة بعد عقود من الجهد والاستثمارات لهذه الأهداف.
سابعا: وجود سلطة مركزية قوية في أمريكا بالإضافة إلى ولايات تتمتع بصلاحيات واسعة. في أوروبا العكس صحيح، حيث الدول المختلفة أقوى من المركز الواقع في بروكسل. موازنات المركز الأوروبي قليلة جدا نسبة للمركز الأمريكي أي واشنطن.
هذا لا يعني انه ليست هنالك حالات ناجحة في أوروبا أي في منطقة اليورو وخارجها. في الواقع هنالك رسائل سياسية كبيرة أتت عبر انتخابات النمسا وفرنسا وغيرها تشير إلى أن الأوروبيين يريدون نقدا قويا. هنالك أيضا دول صغيرة تزدهر منها رومانيا التي تعثرت زمن الشيوعية والفساد لتنمو بقوة أي 4,8% في 2016 و 4.2% متوقع لهذه السنة.
نموذج أوروبي مهم هو الوضع الآيسلندي ذي الدروس الكبيرة. عانت آيسلندا كثيرا من «الركود الكبير». في 2008، بلغ مجموع أصول المصارف الثلاثة الكبيرة 14 مرة حجم الناتج المحلي الإجمالي، وهذا وضع غير طبيعي بل قابل للانفجار. قبلاً، كانت المصارف تقترض من اليابان بفوائد قليلة جدا وتقرضها في الداخل بفوائد عالية لشراء العقارات والقيام بالاستثمارات. أحدث هذا الواقع فقاعات كبيرة خطيرة انفجرت فيما بعد. وضعت الحكومة قيودا على تحويلات الأموال مما سبب نقصا في تمويل الاستثمارات وارتفاعا للفوائد، لكنها ساهمت في نفس الوقت في تجنب كارثة أكبر. بسبب أزمة 2008 والفضائح المالية، كانت آيسلندا على شفير الإفلاس. يقول «فاروفاكيس» وزير المالية اليوناني السابق إن ما أنقذ آيسلندا هو وجود نقد خاص بها أي الكرونا، كما أنها لم تعان كاليونان من الديون العامة المرتفعة. بسبب الأزمة المالية والمصرفية الكبيرة، سقطت الكرونا فزادت صادرات السمك خاصة إلى كندا والولايات المتحدة. ارتفعت إيرادات الدولة وسقطت القيمة الحقيقية للديون العامة المحررة بالكرونا. مجموع هذه الوقائع بالإضافة إلى انتعاش السياحة سمح للاقتصاد بالنهوض بقوة وسرعة. لذا أعلنت الحكومة مؤخرا أنها ألغت كل القيود على التحويلات المالية من والى الدولة.
ما هي التحديات التي تواجه آيسلندا اليوم علماً أن نسبة البطالة سقطت إلى 2.6%؟
أولا: النمو المرتفع وزيادة الأجور التي تؤثر سلبا على التكلفة والإنتاجية. هنالك خطر تضخمي واضح في وقت يقوم قطاع الأعمال بالاستثمار في العقار والبناء كما في كافة أنواع الخدمات. هنا تكمن أيضا مخاطر الوقوع في فقاعات جديدة أي عودة إلى الأزمات السابقة، الوعي العام تجاه هذه المخاطر هو الفارق الكبير مع الماضي.
ثانيا: هنالك ازدهار كبير في السياحة نتيجة الطبيعة الجميلة الفريدة للدولة وللخدمات الممتازة المقدمة. ارتفاع الطلب الداخلي على هذه الخدمات يعزز حظوظ التضخم من جديد، لكن ما العمل إذا كانت هنالك رغبة دولية في التمتع بالجغرافيا والمناخ النظيفين. في الواقع أصبحت السياحة في آيسلندا اليوم أهم من قطاعي المصارف والسمك.
لويس حبيقة
* خبير اقتصادي لبناني
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"