شروط العودة إلى النمو القوي

01:28 صباحا
قراءة 5 دقائق
من مسببات النمو الأساسية ارتفاع الاستثمارات في القطاعات المنتجة، بحيث تتعزز الإنتاجية وثم التنافسية وتتطور كل المناطق والمدن. لا يكفي الاستثمار وحده للنمو، إذ من الضروري أن تتطور القوانين والمؤسسات العامة بما فيها القضاء لتواكب ما يجري عالمياً. العالم يتحرك بقوة وسرعة في كل الاتجاهات، بعضها إيجابي وغيرها سلبي. كي تتطور الإنتاجية، لا بد من الاستثمار في رأس المال الإنساني كما في البنية التحتية. رأس المال الإنساني يعني التعليم والتدريب كما الصحة والغذاء وغيرها. البنية التحتية تفترض ليس فقط صيانة ممتازة ودورية، وإنما استثمارات جديدة في الاتصالات والنقل والمطارات والكهرباء وغيرها. ينقص الدول النامية والناشئة جميع هذه الأمور من حيث الكمية وخاصة النوعية. السبب ليس فقط المال وإنما الإهمال وانتشار الفساد طبعاً.
لم يطور معظم الدول الغربية أسس النمو لديه بدءاً من التعليم الابتدائي إلى المطارات، وها هي تتأخر اليوم في نموها العام وفي ارتفاع إنتاجيتها. بين سنتي 1950 و1973، ارتفع الناتج المحلي الفردي الحقيقي سنوياً 2,5% في الولايات المتحدة و4% في أوروبا ال 15. في السنوات العشر الأخيرة، انحدرت هذه النسب إلى 1% في كل من المجموعتين، أي انخفاض كبير يؤثر في المادة كما في المعنويات وثم الخيارات السياسية التي شهدنا فيها تطرفاً لم نعتد عليه منذ عقود. في مستوى الإنتاجية، أي نمو الناتج الحقيقي لكل ساعة عمل، ارتفع في فترة 1950 - 1973 سنوياً بمعدل 2.6% في الولايات المتحدة و4.9% في أوروبا ال 15. مؤخراً انخفضت هذه الأرقام تباعاً إلى 1.4% و 0.8% مما يشير إلى سوء السياسات التي اعتمدت على مدى عقود. لا يمكن للانحدار المتدرج والمتواصل أن يحصل تلقائياً، بل نتيجة إهمال كبير يتكلم عنه الرئيس «ترامب» دورياً.
ما الأوضاع الاستثمارية في الدول النامية والناشئة؟ ما الواقع وما المطلوب للتطور؟ الحاجات كبيرة لكن الإمكانات دائماً محدودة.
أولاً: انحدر نمو الاستثمارات فيها منذ سنة 2010 من 10.2% حتى 3.4% في سنة 2015. أثّر حتماً في النمو ومستوى المعيشة كما في الاستقرار فيها. المطلوب ليس فقط زيادة قيمة الاستثمارات إنما فعاليتها، بحيث تؤثر في الإنسان والمادة. المطلوب أن تذهب الاستثمارات إلى القطاعات التي تستوعب اليد العاملة، وليس إلى المضاربات العقارية والمالية.
ثانياً: يجب معالجة محتوى الموازنات خاصة الإنفاق المالي بحيث ترتفع الفعالية أي ينفق على التطور وليس على الهدر والفساد. هنالك ضرورة لمراجعة هيكلية الإنفاق العام كما التركيبة الضرائبية. من غير الممكن النجاح في الموضوع المالي العام من دون ضرب الفساد ومعاقبة الفاسدين، وهنالك تقصير في هذه الدول، بينها لبنان من هذه الناحية.
ثالثاً: تسهيل وصول الاستثمارات الخاصة. هنالك مؤشر مهم حول سهولة الأعمال يضعه البنك الدولي سنوياً ويشير إلى النواقص التي تختلف من دولة إلى أخرى. هنالك ورش عمل يجب أن تتم في كل الدول النامية والناشئة للوصول إلى شاطئ الأمان. ممَ يشكو القطاع الخاص عموما؟ من الإجراءات الإدارية والثقل الضرائبي وانتشار الفساد والضبابية وسوء المعاملة وعدم فعالية البنية التحتية وغيرها. هذه أمور تزعج قطاع الأعمال ومعالجتها ممكنة إذا توافرت النيات والمصالح والوعي.
رابعاً: هنالك ضرورة لتطوير المناخ الاستثماري في الدول النامية والناشئة. الموضوعات الأمنية ضرورية وتشكل الغطاء للعمل لكنها غير كافية. هنالك منافسة قوية وكبيرة بين الدول لجذب الاستثمارات. إصلاح المؤسسات وتطوير القوانين وحسن معاملة المستثمرين وتشجيع المبدعين والمخترعين أساسي للتطور والتقدم. من ضمنها تدخل أيضاً سياسات الانفتاح التجاري والمالي وحسن استقبال المهاجرين الشرعيين خاصة أصحاب الكفاءات. احترام الإنسان وحقوق العامل يدخل ضمن العوامل الجاذبة للاستثمارات.
خامساً: تطوير المناطق داخل الدول أساسي، أي تنمية الريف والقطاع الزراعي. يجب تسهيل الاتصالات والنقل وكافة ركائز البنية التحتية، بالإضافة إلى البنية الداعمة للإنسان من تعليم وصحة وغيرها. يجهل أحياناً البعض أن الموضوعات والحاجات تتكامل ولن تنجح الدول إذا لم تعالج هذه الأمور مجتمعة ولو أخذت وقتاً أطول.
من القطاعات الأساسية المؤثرة إيجاباً في النمو والتنمية هو النقل، حيث انخفضت التكلفة عالمياً بشكل كبير نتيجة تطور التكنولوجيا وإصلاح البنية التحتية. فقط 3% من الناتج المحلي الأمريكي يعود إلى النقل بسبب تدني التكلفة وارتفاع السرعة والفعالية. يؤثر النقل في التجارة ليس فقط في الحجم وإنما في الاتجاه. لم يقتل النقل المسافات كما قال البعض إنما صغرها إلى حدود كبيرة. عدّل النقل نوعية السلع التي يتم تبادلها‘ بحيث ارتفعت تجارة أقسام السلع ضمن مجموعات جغرافية قريبة تتكون فيها السلعة النهائية. هنالك سلسلة أقسام أي مجموعة منتجة في دول مختلفة تتجمع في موقع ما. تطور النقل وانحدار التكلفة غيّرا الجغرافيا الاقتصادية العالمية وقرّبا المناطق والقارات.
إن حجم الاستثمارات في النقل كبير جداً، وربما هو من أكبر الاستثمارات في البنية التحتية. هنالك صعوبة تكمن في تقييم الفوائد من استثمارات النقل، مثلا الوقت الذي نوفر بسبب استعمالنا لوسائل النقل الحديثة كما للبنية التحتية الجديدة. الوقت الضائع في الانتقال من مكان إلى آخر، بالإضافة إلى المخاطر والتكلفة كلها خسائر كبيرة إذا تم تقييمها خلال سنة مثلاً. التحسن في قطاع النقل يؤثر بشكل كبير في نوعية الحياة والعمر المرتقب. التأثير في البيئة كبير وبالتالي تطوير النقل هو استثمار في بيئة وصحة الإنسان والأجيال القادمة. مشكلة الاستثمارات في النقل أنها تكلف الكثير ولا تظهر فوائدها إلا بعد سنوات، أي لا يستفيد منها سياسياً من يقررها بل الأجيال المقبلة وسياسيو المستقبل. السياسيون عموماً يفضلون أن يستفيدوا من أعمالهم، أي هنالك للأسف قصر نظر عند العديد من المسؤولين.
سياسات النقل معقدة أيضاً، ليس فقط في استثماراتها وإنما في طرق وتكلفة صيانتها واستعمالها. أين هي حصة المواطن المباشرة وحصة البلديات وثم السلطة المركزية؟ يحصل دائماً خلاف حول الجهات المسؤولة ومصادر وطرق التمويل. يجب وضع صناديق مالية لتطوير البنية التحتية، وهذا ما تهمله الحكومات لأن الفوائد تأتي عموماً عندما يذهب المسؤولون الحاليون. هنالك أيضاً علاقة دورية قوية بين النقل والنمو، أي هل يسبب النقل النمو أم أن النمو يفسح المجال لمزيد من الاستثمارات في النقل؟ هذه العلاقة الفاضلة مهمة لكن يصعب خرقها أحياناً، لمعرفة كيفية تحفيزها وفي أي مكان داخلها. تشير الدراسات الدولية، أهمها في الصين والبرازيل والعديد من الدول الإفريقية، إلى وجود علاقة إيجابية قوية بين الاستثمار في النقل والدخل الفردي خاصة في المناطق النامية، حيث تظهر الفوائد بقوة ووضوح. لا وجود لأي مبرر منطقي يعيق الاستثمار في كل جوانب قطاع النقل، وهذا ما تفهمه الدول الخليجية جيداً وتقوم به حتى في هذه الظروف الانتقالية الدقيقة.

لويس حبيقة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"