صفقة لا تصنع سلاماً

03:18 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

ضاع الحق ضاع.. بالصفقات ضاع، وبالمطامع الداخلية والخارجية ضاع، وبانقسام أصحابه، وسعي أطراف منهم إلى تحقيق مكاسب ضيقة على حساب قضية عرفناها قضية شعب وأمة.. ضاع، وباتّجار فئة منهم بها لصالح جماعات ومجموعات أرهبت وسفكت دماء الداخل وفاوضت المحتل سراً أملًا في أن تزيح فئة أخرى وتعتلي عرش سلطة ليس لها سلطة، وفرضت على الناس القهر والموت أحياء في قِطاع سلبته بمنطق قُطاع الطرق.. ضاع.
استعادة حقوق الشعب الفلسطيني، كانت قضية كل العرب، وبذلت لأجلها كل الجهود، عسكرية ودبلوماسية، وارتوت أرض فلسطين المقدسة ومحيطها بدماء أبنائها وأبناء العرب، وبعد أن انقسم أهل البيت، رجعت الشعوب العربية خطوات للخلف، وانتظروا إصلاح البيت من الداخل للعودة للوقوف صفاً واحداً لاستعادة الحق المنهوب، ولكن طال الانتظار وأدرك الكثيرون أن لا حياة لمن ينادون، ولا أمل في إصلاح ولا مصالحة.
الذئب المحتل وحماته في البيت الأبيض، وجدوا في الوضع الفلسطيني المنقسم، وفي الوضع العربي الذي أرهقته ونالت منه قوى الإرهاب وانفلات شعوب وجماعات الإرهاب، الفرصة الأنسب لاقتناص باقي الأرض والسطو على المدينة المقدسة، وكانت النتيجة ما أسموها «صفقة القرن»، والتي ليست إلا صفعة هذا الزمان على وجه العالم، تتيح لمحتل أن ينهب بقايا حق لشعب لم يوجعه طول سنوات الكفاح المسلح والدبلوماسي، بقدر ما أوجعه انقسام سياسييه ومن أوكلهم قيادته لاستعادة الحق المسلوب.
١٠٢عام مرت على صفقة بلفور، والتي كانت وعداً مشؤوماً على الفلسطينيين والعرب، وكانت صفقة انتهازية بين زعماء الحركات الصهيونية وقادة بريطانيا، صفقة بين طرفين بشأن أرض ودولة لا حضور لها ولا اعتبار لتاريخها ولا لحاضرها، وقد أصاب الواعد والموعود عمى في البصر والبصيرة، بعد أن حاولا تبرير جرمهما بأنه عطاء «شعب بلا دولة لدولة بلا شعب»، وهي الأرض التي تمتلئ كتب التاريخ والكتب السماوية بحكايات وإشارات عن تاريخها الضارب في أعماق الزمن، ولكن منطق الغاب يكفل لمن يملك القوة أن يفرض الزيف على الجميع، وأن يسلب ما ليس حقاً له ليعطيه من يشاء، ويعقد الصفقات غير المشروعة بدعوى حماية مصالحه وتأمين الموالين له، دون أدنى اعتبار لأصحاب الحق.
بصفقة بلفور زرعوا الكيان على أرض فلسطين، وبصفقات أخرى منذ ١٩٤٨ كبر الكيان وتمدد، واليوم جاءت الصفقة الكبرى لتكون «صفعة العصر» على حقائق التاريخ والجغرافيا، وليمنح بها ترامب ما تبقى من أرض فلسطين لنتنياهو، أملاً في أن تُبيّض وجهه المسودّ، أمام «الإسرائيليين» من فساده، ولتكون الصفقة أيضاً لعبة ترامب التي ينقذ بها نفسه من العزل وينقذ وكيله نتنياهو من المحاكمة، والنافذة التي يقفز كلاهما منها على فترة حكم وتحكم جديدة، بعد أن يضمن ترامب دعم اللوبي الصهيوني له في مواجهة الديمقراطيين، ويتاجر نتنياهو بالفعل الترامبي باعتباره أكبر إنجاز تاريخي على حد وصفه، وينال ثقة «الإسرائيليين» في الانتخابات المقبلة، بما يضمن له تشكيل الحكومة، والتحصن دستورياً ضد المحاكمة، وحجز مكان له في التاريخ باعتباره صاحب أطول فترة حكم في دويلة الاحتلال.
ترامب نفسه يدرك قبل إعلانه عن صفقته التي أجهد نفسه وصهره كوشنر فيها، أنها خاسرة ولن تكون واقعاً، وكلامه قبل إعلانها كان يحمل أمنيات وهمية بأن تلقى القبول الفلسطيني.
الحق ضاع على أوراق ترامب، ولكنه أبداً لن يضيع، وقد علمنا التاريخ أن لا حق يضيع وراءه مطالِب، وأن أي احتلال مهما طالت مدته فلا بد أن يأتي يوم ويزول، و«لا بدّ لليلِ أن ينجلي ولا بدّ للقيدِ أنْ ينكسر»، ولكن لن يتحقق ذلك إلا بعد أن تعود الفصائل الفلسطينية إلى رشدها، وتؤمن أن «صفقة القرن» ليست إلا نتيجة لأفعالها، وأن الأطماع الفصائلية هي التي ستودي بحقوق الشعب الفلسطيني، وأن لا أحد سيقف مع أصحاب القضية إلا إذا أصلحوا البيت. وإذا كان نتنياهو وترامب استغلا الانقسام الفلسطيني، فليت القيادة الفلسطينية وحماة القضية يتعاملون بنفس المنطق، ويستغلون الانقسام «الإسرائيلي» الذي فرض إجراء انتخابات ثلاث مراتٍ متتالية، ورغم أن «التالتة ثابتة» فقد تفشل أيضاً.
الهدف من صفقة القرن إحلال السلام والتعايش بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين»، ولكن مضمونها لا يخلق سلاماً، ولا يكرس إلا العنف والمزيد من الكراهية والحقد، ولن تحمل أي ضمانات لأمن «إسرائيل» التي تبحث عنه كمن يبحث عن إبرة في كومة قش، ولن تجدها ما دام قادتُها طامعين في تجريد الفلسطينيين من أبسط حقوقهم.


[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"