عربة تجرها الأوبئة

02:56 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

بعد الصين التي منيت بالموجة الأولى من فيروس «كورونا» (كوفيد-19)، جاءت الأخبار المتتالية من إيطاليا، لتصف الأوضاع هناك بالمروعة، بعد عزل مدن الشمال فيها، والتي تضم حوالي ربع سكان البلد، وإذا كانت الصين قد أصبحت الرقم الأصعب في منافسة الولايات المتحدة اقتصادياً، فإن إيطاليا تعاني منذ سنوات اقتصادياً، وبرزت إلى الواجهة سجالات قوية حول جدوى بقائها في الاتحاد الأوروبي، خصوصاً مع صعود اليمين المتطرف، ممثلاً بحزب «رابطة الشمال»، الذي استدعى في ذاكرة الإيطاليين الخطاب القومي للفاشية في سنوات صعودها، قبيل الحرب العالمية الثانية.
أوروبياً، يبدو واضحاً أن عدم اليقين هو القاسم المشترك الأكبر في المناخ العام السائد؛ حيث تهيمن حالة من التردد في اتخاذ القرارات التي يمكن من خلالها مواجهة تحول «كورونا» إلى وباء عالمي، وهو ما أقرته منظمة الصحة العالمية، وقد رفعت تصريحات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، منسوب الخطر في أوروبا كلها، وليس فقط في ألمانيا؛ حيث قالت إن فيروس «كورونا» ممكن أن يصيب ما بين 60 إلى 70 مليون مواطن في بلادها، وهو ما يضع النظام الصحي في حالة التحدي غير المسبوقة، في ظل واقع تسوده حالة نقص كبيرة في الكوادر الطبية.
أوروبا في معظمها تعاني مشكلات في أنظمتها الصحية، وهو ما كشفه وباء «كورونا»، وكأنه أطاح بكل محاولات تأجيل النقاش العام حول أسباب الأزمة المزمنة في نقص الكوادر الطبية، خصوصاً في الدول الكبرى، من مثل ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، والتي تتمتع بنواتج قومية هي الأعلى في أوروبا؛ بل وفي العالم، وهو ما يطرح أسئلة كبرى حول الأسباب الكامنة وراء إبقاء ثغرات قوية في الأنظمة الصحية من دون معالجة، في الوقت الذي تنال فيه قضايا أقل أهمية حيزاً أوسع في الإعلام أو برامج الأحزاب السياسية، أو في برامج الحكومات.
في العامين الأخيرين، اشتدت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة وبين الصين من جهة، ومع أوروبا من جهة ثانية، وقد ضغطت الولايات المتحدة، برئاسة دونالد ترامب، من أجل ما تعتقده واشنطن خللاً في العلاقات الضريبية والتجارية مع الصين وأوروبا، وقد تمكنت من فرض شروط تجارية وضريبية جديدة على منافسيها الآسيوي والأوروبي، وهو ما كلف الطرفين مئات المليارات من الدولارات، وتراجع في مبيعات الشركات الكبرى، لكن هذه الحرب التجارية كشفت، وبوضوح تام، عن الخلل في النظام السياسي الدولي، وعدم وجود توافقات كبرى بين أطرافه الفاعلة.
الاقتصادات الكبرى اليوم أمام المجهول، فليس «كورونا» وحده يضرب عواصمها ومدنها؛ بل أزمة اقتصادية حادة وعاصفة، أصابت قطاعات التجارة والصناعة والسياحة والمصارف والنقل بكل أشكاله، وقد طرحت أرقام أولية مخيفة حول الخسائر المتوقعة لتلك القطاعات؛ حيث قدر البنك الدولي الخسائر الأولية للصين وحدها في شهر فبراير/شباط الماضي بحوالي 50 مليار دولار، بينما قد تصل الخسائر النهائية في الاقتصادات الكبرى إلى أكثر من تريليون دولار، والأسوأ أن تسود العالم أزمة ركود اقتصادي، من شأنها أن تبرز معها مشكلات وأزمات اجتماعية كبرى، خصوصاً لجهة تفشي البطالة، وازدياد الهوة بين الفقراء والأغنياء، ونقص التمويلات الحكومية لبرامج الدعم الاجتماعي للفئات الأكثر فقراً.
كان واضحاً في العقد الأخير أن النظام الدولي مصاب بأوبئة أخلاقية وسياسية خطرة؛ حيث تراجعت القدرة على إحداث توافقات تجاه الأزمات التي تعصف بالعالم، ومن بينها حروب وأزمات الشرق الأوسط، فتركت شعوب بأكملها لمصائرها الكارثية، واستعادت بعض الدول السياسات الاستعمارية التي سادت في القرن التاسع عشر، مع أن العالم، بدا بعد سقوط جدار برلين، ونهاية عصر القطبية الثنائية، أنه سيعبر نحو الانفتاح بين الشعوب، وتبادل المصالح، ونشر الديمقراطية، لكن كل ذلك يظهر اليوم كأنه ضروب من الأوهام، وأن القوى الكبرى في العالم لا تعير هذه القضايا أي اهتمام حقيقي.
في رائعته المسرحية الشهيرة «عربة اسمها الرغبة» يكشف الكاتب الأمريكي تينسي ويليامز، عن حجم التناقضات التي سادت المجتمع الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصاً زيف الحرية، وعن البون الشاسع ما بين القيم المعلنة وما بين الواقع الحقيقي، وهو ما نجده راهناً وبقوة، فوباء «كورونا»، واستدعاؤه لأزمة اقتصادية عالمية، ونقص الإرادة الدولية في معالجة الأزمات الكبرى، كلها تكشف عن حجم اللحظة التاريخية والكونية التي يعيشها عالمنا؛ حيث تجره الأوبئة من أزمة إلى أخرى، كاشفة عن حجم النفاق السياسي العالمي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"