عندما تتمرد «إسرائيل» على راعيها

00:09 صباحا
قراءة 4 دقائق
سيمضي وقت طويل قبل أن تستطيع «إسرائيل» الاستغناء عن شريان الحياة الأمريكي الذي يمدها بالمال والسلاح والدعم السياسي. وليس وارداً الآن ولا في المستقبل المنظور أن يهجر أحد الشريكين الآخر. النفور المتبادل بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ورئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو لم يحل دون تطوير ودعم العلاقات الوطيدة بين البلدين والتي ترتفع فوق مستوى الخلافات والمشاعر السلبية بين القادة.

في اللقاء الذي جمع الرجلين في واشنطن الأسبوع الماضي عبّر كلاهما عن هذا المعنى الراسخ بلا مجاملات شخصية يتبادلها القادة عادة في مثل تلك المناسبات. قال أوباما: إن التعاون بين الحكومتين سيبلغ في عهده مستوى لم يبلغه في تاريخ العلاقات الثنائية. ورد نتنياهو بأن ما يجمع بين الدولتين هو المصالح والقيم المشتركة والمصير الواحد.
غير أن هذا التناغم في المصالح والأهداف والقيم، وذلك التعاون الواسع لا يعني التوحد بين البلدين. التجارب السابقة والخلافات الحالية تقول بوضوح إن المصالح تتعارض أحياناً، كما هو الحال بشأن الاتفاق النووي مع إيران والاستيطان «الإسرائيلي» وحل الدولتين.
ومن الواضح أن «إسرائيل» باتت تدرك خطورة تباعد المواقف مع واشنطن بقدر ما تدرك خطورة التبعية المطلقة لها. ولذلك فقد شرعت منذ وقت غير قصير في دعم قدراتها على التمرد على الراعي الأمريكي، وإيجاد حيز سياسي تتحرك فيه بقدر من الاستقلالية.
السعي في هذا الاتجاه يسبق وجود نتنياهو في الحكم. غير أن وتيرته تسارعت مع تزايد الخلافات مع واشنطن بسبب أدائه المتسم بالتشدد والصلف. بات الهم «الإسرائيلي» الأكبر هو البحث عن حلفاء جدد، ليس بالضرورة أن يكونوا بدلاء للحليف الأمريكي الذي لا يمكن الاستغناء عنه. ولكن في ظل وجود شراكات قوية متعددة سيكون بمقدور «إسرائيل» أن تقول لا للراعي الأمريكي.
هذا التوجه المهم رصدته مجلة «فورين افييرز» الأمريكية المرموقة التي تعتقد أن «الإسرائيليين» أصبحوا يرون الحليف الأمريكي أكثر إزعاجاً وأقل فائدة. ذلك أن واشنطن ما فتئت تطالبهم بمسائل تثير استياءهم مثل وقف الاستيطان أو إقامة الدولة الفلسطينية. في المقابل تشعر «إسرائيل» بخيبة الأمل في حليفها الأكبر الذي تخلى عن دعوتها لمهاجمة إيران، وضرب بمعارضتها الشرسة للاتفاق النووي عرض الحائط. أمام هذا الوضع طور نتنياهو ما أصبح يعرف بالاستراتيجية الكبرى الجديدة، الرامية لدعم خطوات الاستقلال عن القرار الأمريكي ببناء تحالفات دولية جديدة من خلال التعاون العسكري والسياسي والاقتصادي.
قبل رصد بعض مظاهر هذا التوجه نشير أولاً إلى تطورين مهمين شجعا «إسرائيل» على المجاهرة بعصيان الراعي الأمريكي. الأول يتمثل في انهيار الأعداء الإقليميين ل«إسرائيل» لاسيما العراق وسوريا. وانشغال باقي الدول العربية بأزماتها الداخلية المتفاقمة. ولم تعد «إسرائيل» ترى تهديداً إقليمياً جدياً باستثناء إيران. وتراجع أيضا تهديد المنظمات المعادية لها مثل «حزب الله» الذي غرق في المستنقع السوري، و«حماس» التي خسرت الدعم الإيراني.

حقق هذا الوضع الجديد ميزات كبرى ل«إسرائيل» التي شعرت بأنها لم تعد في حاجة إلى الحماية الأمريكية عسكرياً وسياسياً كما كانت في الماضي. وعزز من هذا الشعور ثقتها في قدراتها الدفاعية.

التطور الآخر هو التحول في المزاج السياسي الداخلي نحو اليمين، وهو ما انعكس في سيطرة الأحزاب المتشددة على «الكنيست» وتحكمها في تشكيل الحكومة. وهذه الأحزاب أكثر ميلاً للتمرد على الشريك الأمريكي وأشد رفضاً للتسوية مع العرب.

وتمثل الصين والهند أهم نموذجين يعكسان التوجه «الإسرائيلي» المتزايد لبناء وتنويع الشراكات الجديدة. ووفقاً لصحيفة «هآرتس» فقد أصبحت ««إسرائيل»» ثاني أكبر مورد للسلاح إلى الهند. وتتراوح مبيعاتها حالياً ما بين مليار و1.5 مليار دولار سنوياً. أما الصين ووفقاً لما تقول «فورين افييرز» فقد أصبحت ثاني أكبر شريك تجاري ل«إسرائيل» بعد الولايات المتحدة. وفي العام الماضي بلغت المبادلات بينهما 11 مليار دولار مع 4 مليارات دولار استثمارات مشتركة. وتتفاوض الدولتان حالياً حول اتفاق تجارة حرة.

حققت «إسرائيل» كذلك إنجازاً كبيراً على صعيد تطوير علاقاتها العسكرية والاقتصادية مع روسيا. واحتوت الدولتان سريعاً التوتر الذي سببه التدخل الروسي في سوريا. وأمكن الاتفاق على التنسيق بينهما لتجنب الصدام الجوي خلال زيارة نتنياهو لروسيا الشهر الماضي.

هذه الدول، خلافاً للولايات المتحدة وأوروبا، لا تزعج «إسرائيل» بمطالبتها بحل الدولتين أو وقف الاستيطان. ولا تمثل القضية الفلسطينية أولوية في سياساتها الخارجية حتى لو أعلنت مساندتها للحقوق العربية. ولم تتردد «إسرائيل» في سبيل تطوير هذه الشراكات الجديدة في إغضاب واشنطن. حدث هذا مرات عدة منها على سبيل المثال امتناعها عن التصويت على إدانة ضم روسيا لشبه جزيرة القرم وهو القرار الذي أيدته الولايات المتحدة في الجمعية العامة. ومنها أيضاً تجاهل التحذير الأمريكي من تطوير التعاون العسكري مع الصين خاصة في وقت يزداد فيه التوتر بين بكين وواشنطن حول بحر الصين الجنوبي. وسبق أن نشبت أزمة كبيرة بين «إسرائيل» وأمريكا عام 2000 عندما حاولت «إسرائيل» بيع نظام «فالكون» للإنذار المبكر إلى الصين.

في سبيل مصلحتها لن تتوقف «إسرائيل» عن المضي في هذا الاتجاه الذي تعتبره خياراً استراتيجياً. وهي تعلم أن النفوذ السياسي والإعلامي لليهود، ولأصدقائها في الولايات المتحدة سيعصمها من عواقب غضب أي إدارة أمريكية حالية أو مقبلة. ترى «إسرائيل» أنها بلغت سن الرشد ويمكنها الانفصال عن الوصي الأمريكي لكن دون أن تضحي برعايته الشاملة وعطائه السخي.

عاصم عبد الخالق

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"