في الحاجة إلى اليسار

03:48 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

يواجه اليسار، أفكاراً وأحزاباً وتيارات، تراجعاً كبيراً في العالم أجمع، إلى درجة يبدو فيها أنه في حالة غياب كامل عن الفعل، حتى في الدول التي عرفت تاريخياً حركات يسارية وازنة، ولئن كانت الحركات النقابية لا تزال تعاند وتكافح ضد الهيمنة شبه المطلقة لقوى الرأسمال، وتحكّمها في القوانين، وإدارتها للسياسة، واختزالها للديمقراطية في العمليات الانتخابية، على حساب التوزيع العادل للثروات في المجتمع، وتراجع مستويات الرفاهية، إلا أن الحركات النقابية تبقى حركات مطلبية، لا تطال جوهر النظام السياسي، بل توجهاته في سن القوانين، ما يجعل من النضال النقابي يراوح في مساحة ضيقة.
يتأسّس اليسار في مختلف تياراته على اعتبار أن الدولة/السلطة هي أداة بيد الطبقة المسيطرة اقتصادياً، وبالتالي فإن المهام الكبرى لليسار هي تحرير السلطة من هيمنة قوى الرأسمالية، لمصلحة الطبقات المنتجة، وتتأسّس هذه المهام النضالية على ما أنتجه الفيلسوف الألماني كارل ماركس (1818-1883) من تحليل حول طبيعة الاقتصاد الرأسمالي، والكيفية التي تتم فيها مراكمة رأس المال، والتي تمكّن طبقة معينة، هي الرأسمالية، من حيازة السلطات والمؤسسات والأدوات، ما يجعل الدولة، بما فيها الدولة الديمقراطية، منحازة إلى مصالح الطبقة الرأسمالية.
لعب اليسار خلال الجزء الأكبر من القرن العشرين دوراً بارزاً في طبيعة الكثير من الأنظمة حول العالم؛ بل أنه أسهم في رسم معادلات النظام الدولي، مع انقسام العالم إلى اشتراكي ورأسمالي بعد نهاية الحرب العالمية الأولى ولغاية انهيار المعسكر الاشتراكي في مطلع تسعينات القرن الماضي، والذي تبرّر تداعياته بروز تيار فكري عولمي يقول ب«نهاية التاريخ»، مُمثله الأبرز الفيلسوف وعالم الاقتصاد الأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما، الذي اعتبر أن سقوط المعسكر الاشتراكي هو انتصار نهائي لمصلحة الدولة الليبرالية، والمقصود ضمناً انتصار الرأسمالية، وهزيمة الاشتراكية، ومن ورائها قوى اليسار.
وإذا ما سلّمنا فرضاً بما ذهب إليه هذا التيار الفكري النيوليبرالي العولمي، بأن اليسار قد لقي هزيمة تاريخية ساحقة، فإنه من واجبنا النظر إلى النتائج التي وصل إليها النظام الدولي خلال العقود الثلاثة الماضية؛ حيث أصبحت الفوضى الخلاقة هي النظام الجديد، مع تحكّم وإحكام شديد لقبضة القوى العولمية، وتحوّل الحكومات إلى أدوات سياسية تنفيذية بيد الطبقات الرأسمالية، ما أفقد النظام الدولي أي حس قيمي أخلاقي، تفرضه عادة المعايير السياسية والمصلحية للتوازن الدولي، والتي تحد من تغوّل القوى الأكثر قوة، من أجل تحقيق شكل من أشكال السلم العالمي.
ما حدث فعلاً، وعلى نطاق واسع، قادته الآلات الإعلامية والأكاديمية والبحثية الكبرى، التي تمولها الطبقات الرأسمالية النافذة، هو شيطنة المفاهيم القيمية المرتبطة باليسار، من مثل الاشتراكية، والعدالة الاجتماعية، والنضال الطبقي، وكل ذلك لمصلحة منظومة قيمية أخرى، تقوم على تعزيز مفاهيم الاستهلاك.
هل يمكن فعلياً الاستغناء الكلي عن اليسار الفكري والسياسي، وفي مصلحة من سيكون ذلك الاستغناء؟
ثمة أصوات عدة بين مفكري العالم تقول إن الليبرالية يمكن تكييفها اليوم مع متطلبات العدالة، بما فيها العدالة الاجتماعية، لكن هذه الأصوات تنسى أو تتناسى أنه ثمة افتراق جوهري بين الليبرالية واليسار، وهو أن الليبرالية تتأسس على قيمة الحرية، خصوصاً الحرية الفردية، بينما لا يمنح اليسار أهمية كبرى للمسائل الفردية، وإنما يعتبرها جزءاً من الحرية الأوسع، أي تلك الحرية القائمة على العدالة، والمرتكزة بدورها على مفهوم الطبقة.
بالطبع، لقي اليسار هزائم كبيرة أمام الرأسمالية، كما أن تسيّد رأسمالية معولمة اليوم لقيادة العالم، يجعل من حظوظ اليسار قليلة، لكن التغوّل الواسع للرأسمالية المعولمة يكشف عن حاجة ملحة وأساسية ليسار جديد، فقد أوضحت أحداث العقد الأخير عن زيف الكثير من الأوهام العولمية، بما فيها القيم الأساسية التي نهضت عليها الليبرالية، والتي تحولت إلى مجرد مبانٍ فارغة من أي مضمون حقيقي، وبروز الشعبوية في أسوأ نسخها، وهو ما يذكّر بمراحل سابقة من تاريخنا المعاصر، تحوّلت فيها الشعبوية إلى كارثة عالمية، من خلال النازية والفاشية، وهو المصير الذي يبدو أنه يلاحقنا اليوم، بأشكال مختلفة، لا تقل وحشية عما شهده العالم في النصف الأول من القرن العشرين.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"