في فرنسا انتخابات خسرها الجميع

03:14 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي

في الدورة الأولى من انتخابات مجالس الأقاليم الفرنسية في السادس من الشهر الجاري حصدت «الجبهة الوطنية» اليمينية المتطرفة نحو 29 في المئة من أصوات الناخبين ، وحلت في الطليعة في ست أقاليم أو مناطق على الأقل من أصل ثلاث عشرة منطقة كبرى.

باتت الجبهة الحزب الأول في فرنسا، كما أعلنت زعيمته مارين لوبان، الأمر الذي كان له الوقع المدوي في المشهد السياسي والذي يحمل في تكويناته المختلفة، اليسارية واليمينية منها، مبادئ وقيم «الجمهورية» الخامسة ويفخر بها.
احتمال أن تكرس الجبهة المذكورة انتصارها «التاريخي» هذا في دورة الإعادة الثانية من الانتخابات في 13 من الشهر الجاري، دفع الحزب الاشتراكي الحاكم إلى الانسحاب لمصلحة اليمين المعتدل في بعض المناطق والدعوة إلى تكوين «جبهة جمهورية» لقطع الطريق أمام الجبهة الوطنية. لكن زعيم المعارضة اليمينية الرئيس السابق نيكولا ساركوزي سارع إلى رفض أي تحالف مع اليسار وأي «اندماج» مع الاشتراكيين أو أي «سحب» للوائح حزبه «الجمهوريين» الذي قال إنه «يمثل البديل الوحيد الممكن» في المناطق التي قد يفوز فيها اليمين المتطرف.
وكان الحزب الاشتراكي يسيطر على كامل المناطق تقريباً، أما حزب «الجمهوريين» فكان يأمل تحقيق نتائج باهرة في هذه الانتخابات، إلا أن اعتداءات باريس الإرهابية في 13 من الشهر المنصرم دفعت قسماً من ناخبيه إلى التوجه نحو اليمين المتطرف. هذه الاعتداءات عززت الخطاب القومي المتطرف والمعادي للاجئين والمهاجرين بعد أن تبين بأن اثنين من المهاجمين تسللا إلى فرنسا مع لاجئين جاؤوا من اليونان. كذلك فإن الحزب الاشتراكي لم يتمكن من الاستفادة من ارتفاع شعبية الرئيس هولاند الذي لقيت تحركاته وسياساته، عقب هذه الاعتداءات، تأييداً واسعاً من الرأي العام. فالحكومة الاشتراكية تعاني ارتفاع نسبة البطالة إلى 10.4 في المئة، وهو الرقم الأعلى منذ عام 1997.
الدورة الثانية من الانتخابات المناطقية لافتة في تناقض الإشارات المنبعثة منها. فالجميع خرج منها رافعاً إشارة النصر: الحزب الاشتراكي لأنه تفادى الانهيار الذي كان متوقعاً، وحزب «الجمهوريين» لأنه حصل على الأغلبية، و«الجبهة الوطنية» لأن 6.8 مليون فرنسي صوت لها رغم أنها لم تنجح في أي إقليم. لكن إذا كانت الانتخابات عادة ما تكون مناسبة للتمييز ما بين رابحين وخاسرين، ففي هذه الأخيرة خسر الجميع: الأحزاب المتنافسة والإقليم والفرنسيون عموماً.
خسرت «الجبهة الوطنية» لأن الاستنفار الانتخابي في الدورة الثانية كان لقطع الطريق على وصولها إلى قيادة أي منطقة في فرنسا، أي منعها من الوصول إلى السلطة في أي مستوى من مستوياتها. لقد تحرك الناخبون اليساريون، في بعض المناطق التي تقدم فيها اليمين المتطرف في الدورة الأولى، من أجل التصويت لليمين المعتدل خصمهم التقليدي.
وهذا يعني أنه من الممنوع التطبيع مع التطرف وقبوله شريكاً في السلطة. رئيس الوزراء إيمانويل فالس قالها بوضوح ما بين الدورتين عندما حذر الناخبين من التصويت للفاشية والعنصرية ومعاداة السامية ، ومن أن وصول هذه الجبهة إلى السلطة سيقود إلى حرب أهلية. وهذا كلام يصدر للمرة الأولى بهذه العلنية والوضوح من رئيس وزراء خلال ممارسته للسلطة.
بدوره خسر حزب «الجمهوريين» لأنه رغم انسحاب مرشحين اشتراكيين لمصلحته في بعض الأقاليم فإن الأرقام التي حصل عليها تبقى أقل مما حصل عليها في عام ٢٠١٠ عندما كان في السلطة. وهذا يعني بأن استراتيجية ساركوزي القائمة على انتهاج خطاب «لوباني مخفف» قد فشلت.
وبالطبع خسر الحزب الاشتراكي لأن هذه الانتخابات تؤكد أنه لا يزال في قلب دينامية إخفاق في كل الانتخابات التي خاضها منذ استلامه للسلطة في عام 2012. وقد وصل وضعه إلى درجة من التردي أنه اختفى كلياً في مجالس ثلاث مناطق أساسية كبرى، وخسر باريس (إيل دو فرانس) وكان مضطراً لحمل شعار «قطع الطريق على الجبهة الوطنية» كآخر ما لديه لحض ناخبيه على التوجه إلى صناديق الاقتراع. وتتآكل شعبية هذا الحزب ليس فقط في صفوف ناخبيه ومؤيديه بل محازبيه الذين يدعون إلى إعادة نظر شاملة وتغيير اسمه وبرنامجه.
كذلك خسر اليسار المناهض للنظام الحالي، سواء من أنصار البيئة أو «جبهة اليسار» لأن مرشحيه فشلوا في الاتحاد وبالتالي استرجاع أصوات الذين أصيبوا بخيبة أمل من سياسات فرانسوا هولاند وحزبه.
أما المناطق أو الأقاليم فكانت الخاسر الأكبر لأنها غابت تماماً عن المعركة الانتخابية التي خيضت على خلفية اعتداءات 13 نوفمبر/تشرين الثاني الإرهابية ، ودارت حول موضوعات الأمن والهجرة وأوروبا وشينغن والاقتصاد وغيرها، وغابت عنها البرامج والمشاريع المتعلقة بتنمية المناطق والتصدي لمشاكلها.
الفرنسيون خسروا أيضاً لأنهم ذهبوا إلى صناديق الاقتراع ليصوتوا ضد من يرفضونهم وليس مع من يحبذونهم ويتحمسون لهم. منهم من ذهب ليصوت ضد اليسار انتقاماً من فشله في السلطة ، ومنهم من ذهب فقط منعاً لوصول اليمين المتطرف ، ومنهم من صوّت اعتراضاً وليس تأييداً لبرنامج أو رؤية.
هذه الانتخابات هي الأخيرة قبل الرئاسية في مايو/أيار 2017 والتي منذ اليوم تؤكد استطلاعات الرأي أن مارين لوبان ستكون في دورتها الثانية. وعليه فإن السيناريو نفسه قد يتكرر، أي أن يتوجه اليساريون إلى صناديق الاقتراع فقط ليقطعوا طريق الإليزيه أمام زعيمة اليمين المتطرف. هذا السيناريو سبق وعرفه الفرنسيون في عام 2002 عندما فاجأ جان-ماري لوبان الجميع بوصوله إلى الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية في مواجهة جاك شيراك، ما استدعى استنفاراً وطنياً لمصلحة هذا الأخير والذي حصد عندئذ ثمانين في المئة من الأصوات، معظمها من صفوف خصومه التقليديين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"