في نقد مقولة «السوق اللغوية»

03:48 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

يدافع المطالبون بالتعدد اللغوي عن فتح الأبواب أبواب التعليم خاصة أمام منافسة «نظيفة» بين اللغات العالمية في الداخل التعليمي، على النحو الذي يستفيد منه نظام التعليم والتكوين والبحث العملي، وينفتح به الدارسون المتعلمون على الخبرات العلمية العالمية بلغاتها بما يرتفع به مستواهم العلمي ومؤهلاتهم، فيَقْوَوْن على مجاراة نظرائهم في العالم؛ بل إن بعضاً ممن دافعوا عن هذا التعدد اللغوي ما وجد في نفسه حرجاً في أن يطالب بنشوء «سوق لغوية» تفرض أحكامها، بموجب قانون العرض والطلب، فتوفر الموارد التي يطلبها الناس، وتترك لهم أن يختاروا أي اللغات يريدون. هكذا يصير على اللغة الخضوع لمنطق المنافسة وبالتالي الدخول في ما يشبه «داروينية لغوية» تنتهي بانتصار اللغة الأقوى.
من البين أن خطاب السوق هذا خطاب ليبرالي مستقى من المجال الاقتصادي والتجاري، وأن من يردده يفكر بعقل تجاري لا يرى في الأشياء إلا قيماً مادية (حتى لو لم تكن مادية) قابلة ل«التسليع»، وبالتالي للاتجار بها في السوق.
ولما كانت الليبرالية التي يمتح منها هؤلاء قيمهم ومفرداتهم هي الليبرالية الوحشية، في طبعتها الجديدة المنتشرة منذ سنوات الثمانينات، ولما كانت العولمة بما هي نقض للاستقلال والسيادة البيئة التاريخية لتحقق تلك الليبرالية الجديدة المنفلتة من كل عقال، فقد زين لهم ذلك كله أن يتصرفوا في أملاك الشعب والأمة بوصفها قابلة للتسخير في مشروعات أشبه بالمشروعات التجارية المدرة للأرباح (الخاصة)، ومنها التعليم واللغة وسوى ذلك.
لا يأبه هؤلاء بما تنص عليه الدساتير العربية من أن لغة الضاد هي اللسان الوطني الرسمي، ولا بما تعنيه أحكام الدستور من معاني الإلزام. فهم لا يفكرون من داخل منطق السيادة الوطنية وقوانين الدولة وما توجبه أحكامها؛ لأن عندهم من الماضي مما قبل عهد العولمة الذي تهاوت فيه السيادات واستُبيحت، ونزلت فيه مرتبة قوانين الدولة الوطنية وتشريعاتها أمام القوانين «الدولية» (الاسم الحركي المستعار لقوانين قوى العولمة الكبرى)؛ لذلك لا
يضير هؤلاء في شيء أن يُشيحوا بالنظر عن المقدسات الدستورية؛ بل أن ينتهكوها على نحو سافر باسم حقوق الإنسان، ومنها الحقوق الثقافية واللغوية، متناسين أنها، بالتعريف الحقوق التي تنص عليها الدساتير وتحميها القوانين الوطنية.
لا نشك في صحة ما قلناه عن شعار التعدد اللغوي، من حيث ماهيته ومقاصده، ومن أنه يُخفي وراءه المطلب المرغوب: فرض الأحادية اللغوية وإقصاء اللغة العربية من الميدان بدعوى الحاجة إلى العالمية.
يكفي دليلاً على ما ذهبنا إليه، أن الشعار هذا رُفِع في الماضي القريب ضد خيار التعريب الذي كان في طور
التحقيق. وها إن تجديد المطالبة به اليوم، ينصرف إلى هدف أوحد: إطباق السيطرة «باللغات الأجنبية» على الحقل اللغوي والتعليمي، الإطباق الكامل، بعد أن تكفل التراجع عن برنامج التعريب بتمكين رفعة شعار التعدد اللغوي من أحد أهدافهم: زحزحة لسان الضاد عن مركز السيطرة.
ولا تكمن خطورة هؤلاء في شعارهم، من حيث هو شعار، ولكن مكمنها في الصدى المتجاوب الذي يلقاه في بيئات بعينها داخل أجهزة الدولة، هي بيئات النخب «الأنجلوفونية» و«الفرنكوفونية» المناهضة للتعريب؛ بل التي كان لها سهم كبير في مشروع إفشاله وإسقاطه.
على أن من أعجب ما يُستغرب منه، في باب الحديث عن شعار التعدد اللغوي، أن رفعته من النخب «الأنجلوفونية» تمتلك أن تستثمر به في مجال فرض مطالبها، لسبب هو استنادها إلى السلطان العلمي واللسني العالمي للغة الإنجليزية، ولاعتقاد كثيرين في الدولة والمجتمع أنها وسيلة أساس للعالمية، فيما لا تمتلك النخب «الفرنكوفونية» في المغرب العربي، أن تدافع عن تعدد لغوي لا تقوى الفرنسية اليوم على خوض منافسته، لتراجع مكانتها العلمية والتداولية في العالم، وأن تغامر بمشايعة مطلب ستكون هي من ضحاياه! وإن نحن شئنا الدقة في التعيين، قلنا إن أبعد الناس عن الدفاع حقاً عن التعدد اللغوي هي النخب «الفرنكوفونية»؛ لأنها تبغي الأحادية اللغوية وتخشى المنافسة.
وليس قليلاً، مثلاً، أنها تمنع المتعلمين والتعليم والدولة والمجتمع من أي انخراط في العالمية إلا من طريقها، مع أنها لم تعد من المراكب التي تركب في الرحلة إلى العالمية! وما ضعف اكتساب الإنجليزية أو الإسبانية أو الألمانية في المغرب العربي مثلاً إلا من وراء إصرار هذه النخب على إبقائنا مشدودين بأرباق الفرنسية.
وبعد لا يعني التعدد اللغوي و«السوق اللغوية» سوى فتح الأبواب أمام فوضى لغوية، والفوضى هذه هي البيئة المناسبة لاستبداد من يمتلك الموارد الأقوى.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"