مستقبل السودان

03:31 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

سوف يظل السودان الشقيق أولوية في حياة المصريين، مهما كانت طبيعة العلاقات بين القاهرة والخرطوم، إذ أن الأمر المؤكد أن الدولتين تسعى كل منهما إلى الأخرى إذا تعرضت لمحنة مفاجئة، أو ظروف صعبة، ونحن نتذكر ما قام به الأشقاء السودانيون غداة هزيمة يونيو/ حزيران 1967 وكيف احتضن (جبل الأولياء) الكلية الحربية المصرية بطلابها الذين كانوا يستعدون للثأر الوطني وتحرير الأرض، ونتذكر أيضا كيف استقبلت الخرطوم جمال عبد الناصر في أغسطس/ آب بعد شهرين من الهزيمة، استقبال الأبطال، اعترافاً بنزاهته، وتأكيداً لمكانته، ورفعاً لروحه المعنوية، عندما خرج عشرات الألوف يعلنون رفض الهزيمة، والإصرار على مواصلة المقاومة لتحرير الأرض، وإزالة آثار العدوان.
وعاد عبد الناصر من قمة الخرطوم بروح جديدة، وإصرار أشد على مواصلة النضال القومي الذي جددت الجماهير العربية تفويضها له من خلال حشود الشعب السوداني صاحب الوعي السياسي،والإحساس العميق بالحرية، والالتزام الشديد بالتعبير عن الرأي في أصعب الظروف، وأحلك الأوقات. وهو أيضاً السودان الشقيق الذي رفض رئيسه الراحل جعفر نميري قطع العلاقات الدبلوماسية مع مصر في أعقاب سياسات (كامب ديفيد)، ورؤية الرئيس الراحل أنور السادات لمنهج جديد في مواجهة تطورات الصراع العربي- «الإسرائيلي»، ومواصلة «إسرائيل» احتلال الأرض، ومحاولة قهر الشعب الفلسطيني، فقد كان للسادات مدرسته المتميزة في العمل السياسي، وهو أمر تلقى فيه دعماً رسمياً من السودان الشقيق في ظل سياسة التكامل المشترك بين الدولتين التوأم، هذه الأسباب مجتمعة جعلتني أرى أن العلاقات المصرية السودانية ترتفع دائماً فوق الأشخاص، والأحداث، والمواقف، وما زلت أتذكر أيضاً ما قرأته من تعقيب للإمام المهدي الكبير عقب مصرع (جوردن) في الخرطوم، حيث قال إنه كان ينتوي احتجازه للمقايضة به في تحرير أحمد عرابي من منفاه، هكذا كانت وشائج العلاقة الوثيقة بين قطري وادي النيل، وقد سعدت دائماً بصداقة متصلة مع الإمام الصادق المهدي الذي كان رئيساً لوزراء السودان مرتين من قبل، والذي لا يزال يحمل شعلة النضال بحيوية، وقد جاوز الثمانين من عمره، وهو الذي تعلم تعليماً جيداً في جامعة أكسفورد، وظل يتأرجح بين المناصب في جانب، والأفكار في جانب آخر، وظل دوره متواصلاً عبر العقود، وقد أزال تردده على القاهرة بانتظام في سنوات سابقة جزءاً كبيراً مما كان يطلق عليه حساسيات (الأنصار) تجاه القاهرة، على اعتبار أن (الختمية) محسوبون أكثر على مصر، وقد كان من المزايا النادرة لحركة 1989 والتضييق على الصادق المهدي أنه عرف مصر أكثر، وارتبط بأشقائه في الشمال على نحو سمح له بأن يراجع بعض أفكاره، وأن يعيد حساباته السياسية، خصوصاً أنه شخصية متميزة، فهو واحد من كبار مثقفي الوطن العربي، وقد يكون ملائمًا أن أطرح - في أعقاب ما جرى مؤخراً من الإطاحة بنظام عمر البشير - بعض الملاحظات:
* أولاً: إن أخشى ما يخشاه خبراء علم السياسة والباحثون في تاريخ السودان عن كثب، أن يتحول الأمر إلى إعادة إنتاج نظام البشير مرة أخرى، وإن كانت الإجراءات الثورية التي اتخذتها السلطة الانتقالية توحي بغير ذلك، وتؤكد أن هناك جدية في التغيير، والتطهير، والاستعداد لرؤية مختلفة، ونظام جديد.
* ثانياً: إن ما جرى في السودان هو شأن داخلي بالدرجة الأولى، لذلك فإنني أظن أن ما يحتاج إليه هو دعم الأشقاء والأصدقاء، من دون أجندات خاصة في التعامل مع الوضع الجديد في العاصمة السودانية، ومن دون رهان على فريق ضد آخر، فالسودان كله محسوب على الجميع بطوائفه الدينية، وأحزابه السياسية، وقواته المسلحة، التي قادت التغيير بدعم شعبي كاسح استطاع أن ينهي ثلاثين عاماً من حكم شابه الفساد والاستبداد على نحو أدى إلى انفصال الجنوب، وإهدار ثروات تلك الدولة الغنية بإمكاناتها الطبيعية، ومواردها البشرية.
* ثالثاً: إن العلاقة بين الشعب السوداني وقواته المسلحة هي علاقة عضوية التكوين، تاريخية التأثير، ونحن نتطلع في الشمال إلى نظام سوداني وطني يدرك أن العلاقات الندية بين شطري الوادي هي ضمان لاستمرارها، وازدهار الآفاق أمامها. فمصر تريد سوداناً قوياً، كما أن السودان من جانبه حريص على تأكيد العلاقة الأزلية بين الشعبين وإبعادها عن الخلافات السياسية، خصوصاً في هذه الظروف التي تمر فيها المنطقة بمخاض من نوع جديد تتأكد فيه إرادة الشعب السوداني، كما أن الحراكات الشعبية العربية ليست (أكليشيهات) بحيث إن ما ينجح في قطر معين لابد أن ينجح في القطر الآخر، فلكل دولة ميزاتها النسبية، وظروفها الخاصة، ولا يمكن التعميم بأحكام مسبقة، وأنا على يقين من أن القادة السودانيين الجدد سوف يشرعون في إرساء قواعد الديمقراطية، وتشكيل حكومة مدنية تقود البلاد إلى الأفضل، خصوصاً أن السودان يواجه تحديات خارجية، وأخرى اقتصادية، فضلًا عن تراكم المشكلات وبقاء بعض الملفات لسنوات طويلة من دون معالجة.
* رابعاً: إن الخروج من شرنقة الدولة الدينية يجب أن يكون هدفاً لقادة الخرطوم، فالإسلام معين لا ينضب لمن يريد أن يعرف، لكنه ليس في الوقت ذاته خياراً سياسياً وحيداً لشعب كبير عرف التعددية والتنوع منذ عشرات السنين، فليكن الدين هو المخزون الحضاري الذي نستند إليه، ولكنه ليس القانون الوضعي الذي نحكم به.
هذه خواطر رأيت أن أسوقها من موقع حبي للسودان، واحترامي لشعبه، وإيماني بأن وحدة وادي النيل هي شعار لن يموت أبدا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"