مسيرة التنمية والحروب

01:38 صباحا
قراءة 5 دقائق
معظم الحروب في هذا الزمن هي أهلية أو داخلية وتمتد لسنوات أو عقود. هنالك حروب انتهت كما هو الحال في شمال إيرلندا وكولومبيا، ربما لأن الفائدة منها داخلياً وخارجياً زالت لكن هنالك حروب أخرى مستمرة. الناس لم تعد تحتمل بعضها البعض كما في السابق ولا تسمع لبعضها البعض، ولا بد من انتصار فريق داخلي على آخر بطريقة أو أخرى. هذا الجو يفسر صعود اليمين المتطرف في أعرق الدول الأوروبية وفي الولايات المتحدة. نسمع في الغرب خطابا سياسيا غاب عن سمعنا لعقود عديدة مضت. الجو السياسي الحالي في الغرب لا يطمئن بل يدعو إلى الحذر والخوف والقلق وكان له تأثير كبير في انتخاب «دونالد ترامب».
ما يحدث اليوم من مشاكل لانتقال السلطة في الكونغو وزيمبابوي وغامبيا وغيرها مقلق ويؤخر عملية التنمية في القارة الإفريقية. هنالك عدوى تحصل وتنتقل من دولة إلى أخرى ولسنا بعيدين عنها عربيا. الفساد يزدهر في الدول الناشئة والنامية والأمثلة كثيرة أهمها في البرازيل وكوريا الجنوبية. غياب الديمقراطية يؤدي إلى حروب، إذ عوض أن ينتصر فريق على آخر في صناديق الاقتراع، يلجأون إلى الشارع المدمر للفوز على حساب الشعب والاقتصاد والحياة نفسها. بعض الحكام في الدول النامية لا يتحملون وجود معارضة بل يرغبون في القضاء عليها. الحكم في نظرهم استمرارية على حساب الشعب عبر من يختاره الحاكم بطريقة أو أخرى. الحل يكون دائما بانفجار الأوضاع كما رأينا مع الربيع العربي وفي معظم دول إفريقيا وبعض المناطق الأخرى. ما زال الخيار الديمقراطي في العديد من الدول النامية الخيار الثاني وليس الأول.
الحرب السورية مدمرة ولا يستطيع الإنسان مشاهدة ما يحصل في الداخل حتى من خلال التلفزيون. هل كان مستحيلاً إيجاد الحل السياسي قبل أن تقع الحرب؟ هل كان هنالك تقصير من قبل الجميع في الداخل والخارج؟ هل تستأهل السياسة في أي بلد تدمير الاقتصاد والإنسان للوصول إلى السلطة أو للحفاظ عليها؟ مشكلة هذه الحروب أن المواطن البريء هو الخاسر الأكبر، والخارج مهما تعاطف حقيقة أو تمثيلاً لا يهمه إلا نفسه ولن يهتم بنا أكثر من اهتمامنا بأنفسنا. في لبنان، عانينا الكثير من الحروب الأمنية وما زلنا نعاني من الحروب السياسية لأن الديمقراطية الحقيقية ما زالت مفقودة. أخذنا سنوات لا قرار قانون جديد لسنا متأكدين من أنه أفضل من السابق. مددنا 3 مرات للمجلس النيابي المنتخب في سنة 2009 وهنالك من يقول اليوم أن التمديد الرابع حاصل حتماً في منتصف 2018. أين هي الديمقراطية والشفافية؟ في كل حال علمتنا تجربة لبنان أن الخلاف على أي موضوع مهما تفاقم لا يجب أن يصل إلى العنف والعبرة في تصرفاتنا الحالية والمستقبلية.
للحروب الأهلية أسبابها وتختلف من دولة إلى أخرى لكنها تؤدي جميعها إلى زيادة الكراهية بين الفرقاء المتحاربين. فالأسباب العرقية والدينية هي أقل مما يعتقده البعض. الأسباب الاقتصادية هي أهم كما تشير إليه الدراسات الحديثة. البحبوحة الاقتصادية تؤخر أو ربما تمنع الحروب وإذا حصلت لا تكون مدمرة وطويلة كما في الدول الأخرى. من الأسباب الأخرى الظلم وضعف المؤسسات العامة ووجود الفساد في الأجهزة الرسمية من أمنية إلى قضائية وسياسية وإعلامية. المواطن العادي وخاصة النساء والأطفال هم الضحايا أولاً، إذ يخسرون منازلهم وأعمالهم بالإضافة إلى خسارة الحياة والإعاقة والأمل بالمستقبل. الهجرة عبر البواخر الصغيرة مؤلمة ولا يمكن تبريرها، لكن تفسر عبر اليأس وفقدان الأمل بالمستقبل وعدم الرغبة في إعادة التجارب السيئة غير المضبوطة. من يعوض على هؤلاء الأبرياء المظلومين؟
الحروب بين الدول عالميا أصبحت ولحسن الحظ قليلة. العلاقات بين الدول حتى لو تفاقمت في السياسة تبقى ضمنها أو عبر أروقة الأمم المتحدة أو في المجالس الإقليمية أو غيرها. مهما تفاقمت العلاقات بين أمريكا وروسيا أو بين أمريكا والصين لا يمكن لعاقل أن يتوقع حدوث حرب كما حصل في الحربين العالميتين الماضيتين. الدول أحسنت طريقة التعاطي فيما بينها وهنالك سقف لن يتعداه أحد لأن لا مصلحة في ذلك. الدول المتقدمة فهمت أن المشاكل لا تحل إلا بالمفاوضات أكانت داخلية أو خارجية. لا تحل المشاكل ربما إلا عبر حروب سياسية واقتصادية ومالية وتجارية وليس عسكرية. في الدول النامية وفيما بينها، ومنها دولنا العربية لم نفهم ذلك بعد والحل يكون عمليا «قاتل أو مقتول» وهذا في غاية الجهل بل الظلم تجاه الشعوب وحياتها ومصالحها ومستقبلها.
لا شك أن الحروب تؤخر التنمية وضعف التنمية يفسح المجال لحصول أو استمرار الحروب. العلاقة بين الحروب والتنمية هي حلقة مفرغة تدمر الاقتصاد والحياة وتهجر المواطن كما يحصل اليوم في سوريا وغيرها أي العراق واليمن والسودان وفي بعض دول إفريقيا الصحراوية. فنتائج الحروب الداخلية مخيفة وتنعكس على الصحة ومستوى المعيشة والإعاقة والحياة، وكلما طالت زادت تكلفة الإعمار والإنقاذ. هنالك مستفيدون في الخارج من الحروب الداخلية وهم مصانع وتجار الأسلحة. فلمن تصنع هذه الشركات أسلحتها الحديثة المدمرة؟ كيف تحقق أرباحها ومن هم عملاؤها في كل الدول.
إنتاج الأسلحة ضخم وتجارتها مزدهرة، ولا بد من محاولة زيادة الطلب من وقت لآخر طالما أن هنالك من يرغب في تسديد التكلفة. فلمن ولماذا تصدر الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا الأسلحة المتنوعة بمليارات الدولارات سنويا؟ من دون حروب، تخف هذه التجارة ويخف الإنفاق على الدفاع وترتفع نسب البطالة. طبعاً لا نبرئ قوى الداخل التي تبقى المسؤولة الأولى عن حدوث واستمرار الحروب العنيفة. طالما أن الطلب موجود، سيلبي العرض الحاجة ويدعمها. وفي العكس أيضا، وجود العرض يخلق الطلب تماما كما قال «جان باتيست ساي» منذ قرون عبر قانون يحمل اسمه. هذه الأسلحة كي تصرف، يجب أن تخلق الطلب المناسب كما قال «جون كينيث جالبريث» منذ عقود وهذا ما يحصل في المجتمعات الفقيرة المفككة المقسمة والراغبة في ذلك.
هنالك مستفيدون في الداخل من الحرب، أي الذين يستفيدون من عمليات التهريب في غياب أجهزة الرقابة والأجهزة الأمنية. في لبنان خلال الحرب، اغتنى العديد من التجار من استيراد السلع والممنوعات بكميات كبيرة في غياب الجمارك والرقابة والسلطات الأمنية. كما أن الحروب لا تمول نفسها فقط، بل هنالك من يمولها لأهداف اقتصادية وسياسية واجتماعية. لا تبقى الحروب الداخلية عموما كذلك بل يتدخل الخارج في معظمها كما نرى جلياً في الحرب السورية. من الخطأ تجاهل تأثير الحروب الداخلية على الدول الأخرى المجاورة والبعيدة. تأثير الحرب السورية على لبنان كبير جدا ليس فقط في السياسة والأمن وإنما في الاقتصاد خاصة. تأثير الحرب السورية على لبنان كبير في النقل والسياحة والاستثمارات والتجارة والزيارات بالاضافة إلى أعداد المهجرين واللاجئين الضخمة مما يساهم في تعثر النهوض الاقتصادي اللبناني. المهم بعد الحروب ليس فقط إنقاذ الاقتصاد وإنما أيضا إنقاذ الإنسان والنفس والعقل، وهذا في غاية الصعوبة ونعرف عنه جيدا في لبنان.
عندما تنتهي الحرب السورية يبدأ إعمار السياسة والمجتمع والاقتصاد كما إعمار الإنسان. نتائج الحروب الداخلية تمتد إلى سنوات لكن لا بد من وجود حل يرضي الفرقاء لمنع تجدد النزاعات العنيفة. المرحلة السلمية اللاحقة صعبة لكن على الأقل لا تحمل الموت والعنف بل الأمل والإعمار والحياة.
لويس حبيقة
* كاتب لبناني
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"