مواسم السلام والسراب

02:10 صباحا
قراءة 3 دقائق

نشرت وكالات الأنباء أخيراً عن مؤتمر للسلام ينعقد في مدينة البتراء الأردنية الأثرية، للسنة الرابعة على التوالي، ويبدو أن فكرة المؤتمر تقوم على أساس الاهتمام بقضايا السلام في المنطقة والعالم، وأن المدعوين للمؤتمر، هم أساساً من بقي على قيد الحياة من الحائزين جائزة نوبل للسلام، حتى إن مؤتمر هذا العام قد حضره ثلاثون من هذه الشخصيات، بينها رئيس الكيان شمعون بيريز.

ومع أن خبر المؤتمر لهذا العام يلفت النظر لتضمنه تفاصيل حوار ساخن عن السلام دار بين الرئيس الإسرائيلي وأمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى (المدعو للمؤتمر أيضاً)، فقد رأينا، قبل التطرق إلى هذا الحوار، التعبير عن دهشة كبيرة لانعقاد مؤتمر كهذا للسلام في الجوار الجغرافي المباشر لأرض محتلة منذ ستين عاماً، ومع ذلك يبيح المؤتمرون والمنظمون لأنفسهم ترف البحث في قضايا فرعية كالتنمية والاقتصاد، ولا يحصرون بحثهم (كل دورة) في مسألة الاحتلال المباشر لفلسطين حتى يزول. أما المصدر الثاني للدهشة فهو كيف يدعى للمشاركة في مؤتمر للسلام، قرب فلسطين المحتلة، رئيس الكيان الذي اكمل احتلال فلسطين فيما بين 1948 و،1967 والذي ما زال حتى الآن يقدم في كل يوم دليلاً حسياً عملياً على سعيها الدؤوب لاستكمال سيطرته الاحتلالية لكل شبر من فلسطين التاريخية، ثم يدعى رئيس هذا الكيان المحتل للمشاركة في بحث شؤون السلام في العالم وشجونه؟

والحقيقة أن الشجاعة الأدبية التي سمح غيابها بهذا التناقض الغريب بين مؤتمرات دائمة للسلام على حدود فلسطين المحتلة، وبين رغبة إسرائيلية متزايدة في وضع كل أرض فلسطين التاريخية تحت سيطرة احتلال دائم وأبدي، عاصمته القدس المحتلة هي أيضاً، هذه الشجاعة الأدبية الغائبة، عبرت عن نفسها من خلال أمين عام جامعة الدول العربية، الذي لا يملك أكثر من قوة الموقف، يستخدمها عندما يفاجأ بموقف لا يمكن السكوت عنه.

لقد فوجئ الأمين العام في إحدى جلسات المؤتمر، برئيس إسرائيل، لا يكتفي بفرض حضوره الغريب في مؤتمر كهذا، بل يندفع إلى موقع اعطاء الآخرين (أي العرب) دروساً في السلام، فيدعوهم إلى مزيد من الاندفاع نحو السلام، كما فعلت مصر والأردن، بدل التقوقع في مواقعهم الحالية. عند هذا الحد يبدو أن الكلام قد صدم دبلوماسية عمرو موسى المعتادة، فأخرجه عنها، فخاطب بيريز قائلاً: عن أي سلام تتحدثون؟ ثم اندفع بانفعال مغادراً قاعة الاجتماع، حتى لحق به وزير خارجية الأردن طالباً إليه العودة للقاعة، فعاد متابعاً مع رئيس إسرائيل حديث المستوطنات التي تأكل المزيد من أرض الضفة الغربية، ثم سأل بيريز: هل تعتقدنا أغبياء؟

الحقيقة أن التاريخ يكرر نفسه في هذه المسألة بتشابه مدهش، فما تنجزه إسرائيل اليوم في المزاوجة بين تعميق وتوسيع وتثبيت الاحتلال لأرض فلسطين، وبين اعتبار السلام هو القبول العربي والفلسطيني بكل ما يجري من دون اعتراض بالفعل أو بالقول (أصبح الاعتراض يعتبر إرهاباً)، هو تكرار حرفي لما كانت تقوم به سلطات الانتداب البريطاني على فلسطين قبل قيام إسرائيل، بالسعي إلى المزيد من تهويد أرض فلسطين، وتغيير طبيعتها السكانية بسيول لا تتوقف من المهاجرين اليهود، ثم تعتبر الموقف العربي الفلسطيني السلمي، هو الموافقة على كل ذلك، على أساس أن أي اعتراض بالفعل أو القول هو الإرهاب بعينه.

في النصف الأول من القرن العشرين، خاف العرب عموما من تهمة الإرهاب (العرب الرسميون بشكل خاص) إذا ما أبدوا أي اعتراض جدي على ما يجري، فاخترعوا واقعاً كارثياً يدمج بين الموافقة الضمنية غير العلنية على ما يجري، والاعتراض الشكلي الذي لا قيمة عملية له، كما أثبتت الأيام.

أشد ما يخشاه المواطن العربي في هذه الأيام، أن تكون بعض الأنظمة العربية الرسمية في القرن الحادي والعشرين، تكرر تماماً ما ابتكرته الأنظمة العربية الرسمية في النصف الأول من القرن العشرين، من حلول استسلامية.

وإلا: لماذا لم تحول الأنظمة العربية مبادرة السلام التي أقرت في مؤتمر بيروت برنامجاً نهائياً للسلام (الأرض مقابل السلام) وتوقف كل تعامل، سري وعلني مع إسرائيل، حتى تعلن قبولها الرسمي بهذه المبادرة؟

تبدو لنا هذه المبادرة العربية، إذا ما وضع كل العرب كل قوتهم لتنفيذها بحذافيرها، الحد الأدنى من الحقوق العربية التاريخية التي يمكن استعادتها، حفاظاً على المستقبل العربي.

وفيما عدا ذلك، ستظل مواسم السلام تتكرر كما تتكرر مواسم السراب، من مدريد حتى أنابولس والبتراء، ملهاة للعرب والفلسطينيين، حتى تستكمل إسرائيل بالمستوطنات تهويد الأمتار المتبقية من أرض الضفة الغربية، وأرض القدس العربية، ولا يبقى عندئذ للسلام من معنى سوى المعنى الذي تقصده إسرائيل: استسلموا لكل ما أفعل ووافقوا عليه، وتعايشوا معه، وإلا فإن أي اعتراض عملي أو لفظي، هو إرهاب، وفق القاموس الدولي، وليس الإسرائيلي فقط.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"