نهاية عصر اليقين

02:31 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو
لا يمكن للسياسة أن تكون عارية من الثوب الأخلاقي، لأن البديل عن ذلك هو التشويش وخلط الأوراق والتحالفات قصيرة المدى
حَملت المنظومتان الاشتراكية والليبرالية اتجاهين فكريين وإيديولوجيين متعارضين، وبررت الأولى نفسها كمدافعة عن ضعفاء العالم ومظلوميه في وجه الرأسمالية العالمية، بينما بررت الثانية نفسها كاتجاه مضاد لشمولية الفكر الاشتراكي وأنظمته، ومدافعة عن الديمقراطية. وفي سياق المواجهة في نظام دولي ثنائي القطبية، ساد على مدار عقود، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولغاية سقوط الاتحاد السوفييتي، في مطلع تسعينات القرن الماضي، مواجهة عرفت بالحرب الباردة، تجنّباً للمواجهة العسكرية المباشرة بين المعسكرين الغربي والشرقي.
وعلى الرغم من تلك المواجهة غير المباشرة بين المنظومتين، إلا أن النظام الدولي عرف حالة كبيرة من الاستقرار، في ظل وجود قيادة عالمية، أقامت ما يشبه ترسيم الحدود في المصالح، وفي تقاسم النفوذ في العالم. وسادت اعتقادات شبه راسخة على ضفتي الاستقطاب، فالشعوب الغربية والبلدان التي دارت في فلكها، رأت أن نضالها في وجه مصالح المنظومة الاشتراكية أشبه بتكليف ديني ضد فكر شمولي، يمنع الحريات، وتقوده نخب حزبية متكلسة فكرياً، تهيمن على شعوب بأكملها، بقوة المؤسسات الحزبية والعسكرية والأمنية.
في المقابل، سادت اعتقادات مضادة على الضفة الأخرى، فقد تبنّت البلدان الاشتراكية خطاباً تحررياً، ذي صبغة دينية في بنيته، فهي تناضل من أجل إسقاط الرأسمالية العالمية، المسؤولة عن إفقار الطبقات المنتجة في العالم، لمصلحة نخبة من أثرياء العالم، ونخبه السياسية الفاسدة، واعتبرت المنظومة الاشتراكية ممثلة بأحزابها المتشابهة من حيث الجوهر أن سقوط الرأسمالية حتمي، وأن وعد العدالة لا بدّ قادم.
وفي مفارقة كبرى عرفتها تلك العقود من الاستقرار، فإن الاشتراكية بمرجعيتها المادية، والليبرالية المستندة إلى تاريخ طويل من التنوير، تبنّتا خطابين إيديولوجيين حتميين في عمقهما، مستمدّين من الإرث الديني في تقسيم العالم إلى عالم الأخيار وعالم الأشرار، يقف أحدهما إلى جانب الحق، الذي يسمح له بمحاربة الآخر، والقضاء عليه، تحقيقاً لمطلب أعلى، هو تحقيق العدالة الإلهية، والتي مُنحت في الخطابين مسميين أرضيين، هما المساواة في توزيع الثروة، والحرية في إبداء الرأي.
لقد انتهى المشروع الاشتراكي الأممي إلى الفشل، بسقوط الاتحاد السوفييتي، وتفكك المنظومة الاشتراكية، فيما بدا انتصاراً للمعسكر الليبرالي الغربي، بقيادة الولايات المتحدة، والتي استثمرت ذلك الانتصار في محاولة لتوسيع نفوذها المباشر، مستخدمة القوة العسكرية في أفغانستان والعراق، في تراجع واضح عن خطاب «نشر الديمقراطية في العالم»، الذي كانت قد رفعته الولايات المتحدة لعقود، خلال الحرب الباردة، وهو ما جعل القوة الأمريكية تظهر عارية من أي غطاء إيديولوجي مقنع.
ولقد حاولت روسيا، ولا تزال، أن تستعيد إرث الدولة السوفييتية في النظام الدولي، كقوة ثانية، لكن هذه المرة من دون ادعاء إيديولوجي، بأنها نصيرة المستضعفين من شرور النظام الرأسمالي، كما تستمر الولايات المتحدة في منع صعود منافسيها العالميين، وتحديداً الصين، لكن من دون ادعاء بنشر الديمقراطية، حتى لو أنها ما زالت تستخدم هذا الخطاب، لكن من دون أن يكون له صدى عالمي، أو قدرة على الإقناع. ما يبدو أنه قد سقط في النظام الدولي هو اليقين، بحمولاته الإيديولوجية، وخطابه الاستقطابي، وقدرته على حشد الشعوب والجماهير، وهو ما يجعل النظام الدولي في حالة من العري، ويجعل جميع الدول الفاعلة فيه متساوية من حيث الدفاع عن مصالحها، من دون ادعاءات أخلاقية، بل وغياب القدرة عند جميع الأطراف على بناء الدافع الأخلاقي، وقد انعكس ذلك التراجع الأخلاقي على التوجهات السياسية والحزبية نفسها في الدول المتقدمة، والتي كانت تبدي سابقاً تعاطفاً ملحوظاً مع قضايا الشعوب الأخرى، وهو ما لم نعد نجده اليوم.
وإذا كان عصر اليقين هو عصر اليمين واليسار بامتياز، حيث لكلّ اتجاه صفاته وأهدافه ومناصريه ومفكريه، فإن نهاية هذا العصر تفتح العالم على تحديات سياسية كبرى، ومنها التحدي الأخلاقي، إذ لا يمكن للسياسة أن تكون عارية من الثوب الأخلاقي، فالبديل عن ذلك هو التشويش وخلط الأوراق المستمر والتحالفات قصيرة المدى غير المرتبطة بأهداف استراتيجية، وكل ذلك من شأنه أن يسهم في نشر الفوضى، وأن يضعنا أمام عصر جديد بلا ضوابط.
في هذه الأثناء، لا يبدو العالم، ولا النظام الدولي المعبر عن تناقضات المصالح فيه، قادراً على إبراز بدائل، أو على الأقل قادراً على إيجاد قواعد معقولة للتفاهم حول القضايا المطروحة عليه، وهو ما يفسر كيفية تدهور الأمور في الشرق الأوسط إلى المآلات التي وصلت إليها، من دون قدرة الدول الفاعلة في ملفاته على إيجاد قواسم مشتركة فيما بينها، ووضع حلول تمنع الذهاب نحو مزيد من التدهور.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"