هدنة معلقة بإرادة الوكلاء

03:15 صباحا
قراءة 4 دقائق
عاصم عبد الخالق

من أكثر من زاوية يمكن رؤية اتفاق وقف الأعمال العدائية في سوريا الموقع بين الولايات المتحدة وروسيا. ومثل أي اتفاق للهدنة لا يكون التحدي الأكبر في التوصل إليه، وإنما في تنفيذه وصموده. في كل الحروب الأهلية يوقع المتحاربون عادة عشرات الاتفاقيات المماثلة، وينتهكوها قبل أن يجف المداد الذي كتبت به. من هذه الزاوية فإن الاتفاق الحالي ليس إنجازاً في حد ذاته، لأن المهم هو ما سيتمخض عنه. كما أنه بداهة لا يرقى لمستوى اتفاق سلام ينهي الحرب الدائرة منذ نحو خمسة أعوام.
حتى على المدى القريب لا يوجد ما يضمن أنه سيفضي إلى هدوء مؤقت. ويظل انهياره مطروحاً لأسباب كثيرة، بعضها كامن في حواشيه وبنوده المملوءة بالثغرات. وعلى سبيل المثال لا يوجد حصر بالمجموعات الإرهابية التي يستثنيها من الأعمال الحربية فيما عدا «داعش» و«جبهة النصرة».
ويمثل استثناء «جبهة النصرة» من الهجمات الروسية السورية مشكلة كبرى بالنظر إلى تحالفاتها المتشعبة، وتداخل مناطق انتشار قواتها مع قوات المعارضة. وتلك مشكلة أخرى لأن الاتفاق لم يحدد المناطق الجغرافية التي تنتشر فيها الجماعات الإرهابية. واستمرار الغارات ضد «النصرة»، وبطبيعة الحال ضد حلفائها، يعني أنهم سيردون على الهجمات. وحينئذ لن يكون للهدنة وجود.
ثغرة أخرى هي غياب آلية لمراقبة الهدنة وتثبيتها والاكتفاء بنص فضفاض عن خط اتصال ساخن بين روسيا وأمريكا، والتزام أطراف النزاع (التي لم يوقع أي منها على الاتفاق) بالإبلاغ عن الانتهاكات.
ثمة زاوية سياسية مهمة يمكن من خلالها قراءة الاتفاق على ضوء التنافس التقليدي بين الولايات المتحدة وروسيا. مبدئياً انفردت الدولتان بالتوقيع على الاتفاق، وهما من غير أطراف الصراع رسمياً، واستبعدتا الأطراف المحلية المتحاربة، وحتى القوى الإقليمية المتورطة في الصراع. يمثل هذا الوضع اعترافاً عملياً بأن ما يجري في سوريا هي حرب بالوكالة بين الغريمين الكبيرين. الرؤية الواقعية للأزمة تبدد أي إحساس بالدهشة إزاء هذا الغياب. فما دام السيدان الكبيران قد اتفقا فما الحاجة للوكلاء الصغار؟
الخطورة هنا ليست فقط في عدم وجود ما يضمن التزام أي طرف محلي أو إقليمي بالهدنة لأنه لم يوقع عليها، ولكن في ترسيخ انفراد القوى الكبرى بتحديد مصير سوريا، وفقاً لمصالح تلك القوى وفي غيبة إرادة الشعب السوري.
وإذا كانت هناك شكوك في أن واشنطن ستكسب شيئاً حقيقياً من الهدنة اللهم إلا الاستجابة للضغوط الدولية لتخفيف معاناة المدنيين، وتقليص تدفق اللاجئين على أوروبا، فإن المكاسب الروسية تبدو واضحة. ذلك أن الاتفاق جاء بعد أن حققت موسكو النتيجة الأهم التي سعت إليها بتدخلها العسكري، وهي إنقاذ نظام الأسد. واختارت موسكو للهدنة توقيتاً مناسباً لها بعد أن حققت مع قوات الأسد مكاسب كبرى آخرها استكمال تطويق حلب. وأصبح الحليفان في حاجة إلى استراحة محارب.
لا يخفى أيضاً أن لروسيا ثأراً مع تركيا منذ إسقاط طائرتها الحربية. ويرى الروس أن وقت الحساب قد حان مع أنقرة التي يضعها الاتفاق في مأزق واضح. ذلك أن مواصلة هجومها على الأكراد سيجعلها الطرف البادئ بانتهاك الهدنة ويضعها بالتالي في مواجهة مع واشنطن، حيث يلزم الاتفاق الطرفين الموقعين بضمان التزام حلفائهما به. ويفسر هذا لماذا سارعت أنقرة بالإعلان أن الهدنة غير ملزمة لها.
وتدرك روسيا أهمية اللعب بالورقة الكردية للضغط على تركيا. ولهذا لا تتوقف عن مغازلة الأكراد، وتقديم نفسها كشريك يوفر لهم الحماية. مثل هذا التقارب يقلق واشنطن التي تضغط بالفعل على تركيا لوقف هجماتها ضد الأكراد حتى لا يرتموا في أحضان روسيا.
الجانب العسكري يقدم زاوية قراءة أخرى مهمة. وكما أشرنا فإن الهدنة في هذا التوقيت هي مطلب روسي سوري استعداداً لهجوم شامل حدد ملامحه الخبير الفرنسي فابريس بلاتشي الأستاذ في جامعة ليون، والباحث الزائر في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى. يرى الباحث أن التحرك القادم (حتى في ظل الهدنة) سيبدأ من محيط حلب مع توسيع وإحكام الحصار والسيطرة على المدينة، وتأمين طريق الإمداد الوحيد بينها وبين باقي المناطق الخاضعة للنظام. وبالتعاون مع الأكراد سيشن الجيش الحكومي هجوماً يتقدم فيه صوب الشمال الشرقي بمشاركة قواته في كويرس على طريق حلب- الرقة، وفي إثريا على طريق السلمية- الرقة. بينما يتقدم الأكراد جنوباً من سد تشرين.
ويحدد الباحث 3 نتائج لهذا التحرك، أولها الحد من وجود «داعش» على الضفاف الجنوبية لبحيرة الأسد، واستعادة الجيش لقاعدته الجوية في الطبقة التي خسرها في نوفمبر/تشرين الثاني 2013. وفي هذه الحالة سيتم فصل قوات «داعش» المنتشرة بين حلب والفرات عن عاصمتهم في الرقة. النتيجة الثانية هي إطلاق يد الأكراد لشن هجوم من عفرين وكوباني (عين العرب) للالتحام بالجيبين الكرديين في الشمال. النتيجة الثالثة هي أن الجيش وبعد استعادة الطبقة سيكون في وضع يسمح له بالتقدم إلى الرقة، ولكن ستظل هذه الخطوة مؤجلة لأن الأولوية حالياً للعمليات في الجبهة الشرقية لضمان فتح الطريق بين دير الزور ودمشق واستعادة تدمر. كل هذا يثبت أن ما تم التوقيع عليه ليس هدنة في الواقع، ولكن اتفاق تهيئة الأجواء للجيش السوري الحكومي والقوات الروسية لإعادة تنظيم الصفوف والتقاط الأنفاس. ومع ذلك لو صمدت الهدنة لكان خيراً لسوريا على الأقل رحمة بالمدنيين أو من تبقى منهم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"