هل استعادت روسيا مركز القوة الدولية العظمى؟

03:24 صباحا
قراءة 4 دقائق

لا يزال إرث الاتحاد السوفييتي مسيطراً على الثقافة والاجتماع السياسي الروسيين رغم أن الحزب الشيوعي بات هامشياً الى حد كبير . وقد أعلن بوتين مرة أن اختفاء الاتحاد السوفييتي كان الكارثة الكبرى في القرن العشرين . هذا الإعلان الذي صدم كثيرين في العالم ينم عن حنين الى المجد والعظمة أكثر منه عن تعلق بالنظام السياسي البائد . وتقوم كل سياسة بوتين، الداخلية والخارجية، على محاولات تخطي هذه الإهانة التاريخية وإعادة بلاده الى مركز القوة الدولية العظمى الذي كانت تتبوؤه .

لكن في العمق ليست سياسة روسيا الخارجية سوى مرآة للعقبات الداخلية التي تعترضها . فهي سياسة دفاعية أكثر منها هجومية وتنحو الى العزلة تقريباً والاكتفاء بالدفاع عن العمق الاستراتيجي في الجوار المباشر، وإلى إزعاج وإعاقة المشاريع والمخططات الأمريكية حيث يتسنى لها ذلك . فلم يعد لروسيا من رسالة كونية، كما كانت عليه حال الاتحاد السوفييتي، إذ لم تعد تهتم بالإشعاع الكوني ولا بالترويج لشكل خاص من أشكال تنظيم المجتمع الدولي والنظام العالمي . والحقيقة أنها ليست الوحيدة في هذا المضمار إذ إن كل القوى البازغة تميل للانطواء على نفسها، الأمر الذي أسهم في تراجع التعددية المنشودة على المستوى الدولي . لكن الأحادية الروسية تختلف عن تلك الأمريكية أو الصينية، فالأولى هجومية والثانية تكتفي بالسعى لتأمين مكان لها تحت الشمس .

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي لم يسع أحد إلى مساعدة روسيا على تعريف مكانتها الجديدة في أوروبا والعالم . لم يعرض عليها مثلاً ما يشبه معاهدة فيينا بالنسبة لفرنسا، التي أعادت إدراجها في أوروبا بعد العام 1851 . لقد أريد لروسيا أن تكون بعيدة وضعيفة قدر الإمكان . بل إن الغرب سعى إلى الاستفادة من ضعفها خلال الحقبة اليلتسينية، كما بقيت الدول التي كانت تدور في فلكها إبان الحقبة الشيوعية في حال من الحذر حيالها وفقدان الثقة . وجاء حلف الأطلسي ليمكث على حدودها مباشرة في دول البلطيق، كما سعت الدروع الواقية من الصواريخ الى محاصرتها وتعطيل قوتها . ورغم أن الولايات المتحدة فتحت حواراً مباشراً معها حول السيطرة على الأسلحة النووية لكنها، من كل النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية، سعت الى منافستها في فضائها المباشر السابق .

وشكلت قضية كوسوفو منعطفاً ،وردت عليها موسكو في جورجيا التي اجتاحتها في العام 2008 . لقد رأت موسكو التدخل العسكري في كوسوفو، العام ،1999 تعديلاً في ميزان القوى في أوروبا . وجاءت قضية ليبيا في العام 2011 لتضيف زيتاً الى النار . فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي تعاطى حلف الأطلسي مع روسيا كما لو أنها لا تزال تشكل تهديداً أو على الأقل فإنه لم يأخذ مصالحها في الحسبان .

لقد استمرت الحرب الباردة في الواقع والممارسات . وإذا كان الشريك الطبيعي لروسيا هو الاتحاد الأوروبي وليس حلف الأطلسي، وفضاؤها الطبيعي منظمة الأمن والتجارة الاوروربية OSCE وصولاً الى فلاديفوستوك مروراً بآسيا الوسطى، فإن ألمانيا هي الوحيدة التي تنظر إلى الأمور كذلك . والثورات الملونة في المحيط الروسي، لاسيما أوكرانيا وجورجيا، يراها الروس نتيجة لتدخلات حلف الأطلسي ويتهمون الأمريكيين بالسعي الدائم لمحاصرتهم وإضعافهم .

تبقى السياسة الخارجية الروسية دفاعية تماماً، فهي تسعى إلى المحافظة على نفوذ اقتصادي وسياسي وعسكري فقط في الجوار المباشر، وللإبقاء على وسائلها الخاصة في مجال تصدير الطاقة، وتعارض الدروع الواقية من الصواريخ التي ينصبها حلف الأطلسي في أوروبا وتركيا، وتعترض على دخول أوكرانيا وجورجيا في هذا الحلف، كما تدافع عن النظام السوري معقلها الأخير المهدد بالسقوط في العالم العربي، وهذا يكلفها أكثر مما ينفعها، إضافة إلى صد السياسات الغربية حيال إيران، بعدما تخلّت تقريباً عن كوريا الشمالية (صوتت لمصلحة العقوبات ضدها في مجلس الأمن) . فقط مكافحة الإرهاب تحظى بتوافق دولي . وفي العديد من النقاط والمواقع تتمتع السياسة الروسية بدعم صيني، لكن مصالح البلدين تتعارض في غير مكان .

والسياسة الخارجية الدفاعية نذير ضعف وليس قوة . صحيح أن روسيا عضو دائم في مجلس الأمن، لكن الاستخدام المفرط لحق النقض (الفيتو) يجعلها في عزلة دولية . وهي القوة النووية الثانية في العالم لكنها إذا لم تسهم بفعالية في منع انتشار السلاح النووي، فهذا يرتد عليها وعلى مصالحها . لقد أضحت عضواً في المنظمة العالمية للتجارة وهذا نذير انفتاح لكنه يجعلها في قلب العولمة النيوليبرالية التي تعاني أزمة وجودية خطرة .

وفي المحصلة فإنها وإن كانت تستفيد كثيراً من التراجع الأمريكي في العالم ومن وجودها في قلب البريكس إلا أنها، في أحسن الأحوال، قوة إقليمية عظمى إذ إن الطريق الى مركز القوة الدولية العظمى، الذي كانت عليه في السابق، لا يزال محفوفاً بالمخاطر في عالم يعيش حالة من السيلان وإعادة التشكل .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"