هل تكرار الأزمات المصرفية حتمي؟

01:24 صباحا
قراءة 5 دقائق
لا ننتهي من أزمة مصرفية حتى نبدأ بأخرى. أكثرية المصارف العالمية تعاني بطريقة أو أخرى منذ أزمة الركود الكبير في سنة 2008. منذ أشهر تشتد الأزمة المصرفية الإيطالية، ويظهر أن حلاً عملياً بدأ تطبيقه بموافقة المفوضية الأوروبية يفصل الأصول الجيدة لمصرفين كبيرين عن مجموع الأصول ليعالج الخلل في الباقي. هنالك أموال ستدفع من الخزينة لتسديد الخسائر، إلا أن حسن إدارة الأصول الجيدة كفيل بتحقيق بعض الأرباح التي تصبح إيرادات عامة. هذا الحل الأفضل وقد اعتمد سابقاً في دول عدة منها الولايات المتحدة منذ الثمانينات مع فشل مؤسسات التوفير والقروض. لم تكن التجارب ناجحة إنما كانت خيارات مقبولة حددت الخسائر وأعطت الدروس التي للأسف لا يؤخذ بها دائماً.
تجربة مصرفية سلبية نموذجية لافتة كانت الإيسلاندية التي هزت العالم بالرغم من حجم الدولة المتواضع. هي مثال لما حصل وما يمكن أن يحصل في الأنظمة المصرفية في الدول الرأسمالية. هي نموذجية لأن الإيسلانديين محافظين في تصرفاتهم، فالثقافة الموجودة والموروثة ليست ثقافة مخاطر. يرغب الإيسلانديون في العيش المريح وتحقيق السعادة لهم ولأسرهم دون المخاطرة بالأوضاع. يرغبون في اقتناء منزل قبل سن الأربعين، وهذا مقبول بل راشد ومنطقي. هنالك تاريخ يشير إلى استفادة الإيسلانديين من التضخم للمخاطرة. في السبعينات ونتيجة ارتفاع أسعار النفط ولأن الاقتصاد يستورد معظم حاجياته، تحقق التضخم المرتفع أي 43% في سنة 1974 و59% في سنة 1980. كان الشعار المعتمد: «لماذا لا تقترض وتشتري منزلاً، وتجعل التضخم يسدد القرض؟». شعار «ذكي» يعتمد على التوقعات التضخمية والمخاطرة المالية. كانت النتيجة محاولة الجميع إنفاق ما عندهم بأقصى سرعة ممكنة وتجميع القروض، وهذا ما يحصل في مجتمع تضخمي تخرق ثقافته عدوى المخاطرة والتسرع. الإنفاق، بل التبذير، يحرران وهذا ما شعر به الإيسلانديون. ثقافة الشعب تغيرت سلباً طبعاً، وبسرعة لافتة. هذا التغير الثقافي سبب الأزمات وسرعها وعمقها، إلا أن الوقائع اليوم تشير إلى عودة الأمور إلى سابق عهدها.
بدأ «ترامب» اليوم تحرير القطاع المصرفي الأمريكي بعد التضييق عليه منذ أزمة 2008، مما يشير إلى إمكانية تكرار هذه الأزمات. دروس الأزمة الإيسلاندية لم يؤخذ بها كما قال الكاتب «روجر بويز» عن الموضوع لا قبل أزمة 2008 ولا بعدها. في الحقيقة كان الحكم الإيسلاندي ضعيفاً وبالتالي أفلتت الأمور من يده مما دفع الجميع وخاصة وأولاً المصارف إلى اعتماد السياسات الخاطئة المتهورة المرتكزة على الجشع وغياب الكفاءة. ليس صحيحاً أن مشاكل الدول الصغيرة هي صغيرة ومشاكل الكبيرة كبيرة. في الحقيقة إيسلاندا دولة صغيرة اقتصادياً وكبيرة في مشاكلها العميقة ودروسها الغنية. الانفتاح الاقتصادي والمالي الإيسلاندي، وهذا طبيعي لدولة صغيرة، جعلها ترتبط بقوة بما يحصل على الساحة العالمية. لذا استوردت إيسلاندا كل المشاكل الأمريكية دون أي رادع أو حواجز، فتعمقت مشاكلها وتعقدت في غياب القيادات الواعية.
إيسلاندا دولة فريدة ليس فقط في جغرافيتها وفي خصائص سكانها وإنما خاصة في أنها الدولة الوحيدة التي تضع دليل الهاتف عبر أبجدية الاسم الأول وليس العائلة. تعتبر إيسلاندا دولة غنية تعتمد على التصدير كما على مصادر ثلاثة للثروة. تنتج السمك وتصدر معظمه خاصة إلى الولايات المتحدة وكندا، تعتمد على مصادر مائية وحرارية كافية لإنتاج الطاقة وبالتالي إنتاج معدن الألمينيوم وتصديره وثالثاً بسبب وجود قاعدة أمريكية لديها تستفيد هي من المساعدات والخدمات الإنمائية التي تؤمنها. في سنة 1991، تولى «ديفيد أودسون» رئاسة الوزراء وحاول تطوير المصادر الثلاثة المذكورة وبالتالي اتكل على القطاع المصرفي لتأمين التمويل للتطور. بدأ الإقراض المتهور في دولة حاولت استعمال المال لتقوية استقلالها وتوسيع نفوذها بدل التركيز على قطاعات أخرى كالصناعة. هذه ليست هي حال إيسلاندا فقط بل يمكن إدخال إستونيا ولاتفيا وليتوانيا إلى هذه المجموعة الطموحة والمتأثرة جداً بالخارج وخاصة بالصراع القوي بين الولايات المتحدة وروسيا.
قام «ديفيد أودسون» بخصخصة المصارف دون أن تضع الدولة قيوداً أو قوانين تضبط العمل وتراقب توسع القروض. هنالك مصارف ثلاثة ضخمة في دولة من 300 ألف شخص، بينهم الثلثان يعتاشون من الأجور، مما يعني أن الإقراض الخارجي هو في غاية الحيوية للاستمرار وتحقيق الأرباح والنمو. كيف تم الإقراض المصرفي؟
أولاً: قامت المصارف بالاقتراض من اليابان حيث الفوائد منخفضة للإقراض في إيسلاندا حيث الفوائد مرتفعة. وصل الفارق إلى أكثر من 12 نقطة مئوية، أي أرباح ضخمة دون أي جهد أو عناء وهذا ليس مقبولاً في الاقتصاد. تعتمد الأرباح على بقاء سعر الصرف ثابتاً بين الين والكرونا وهذا ما لم يحصل بسبب الأوضاع الاقتصادية الداخلية وبالتالي وقعت الخسائر الكبرى.
ثانياً: قامت المصارف الإيسلاندية بإقراض المواطنين لشراء المنازل. أقرضتهم 100% من سعر العقار بفوائد منخفضة متكلة على زيادة الأسعار من جراء زيادة الطلب وهذا ما حصل أي فقاعة انفجرت وأخذت معها كل شيء.
ثالثاً: حصل الإقراض لشراء الأدوات المالية من أسهم وسندات. ارتفع معدل أسعار الأسهم حوالي 9 مرات خلال سنة بدأ من 2003. قبل سنة 2006، أصبحت الأسر الإيسلاندية أغنى ب 3 مرات على الأقل مما كانت عليه في سنة 2003.
رابعاً: كان هنالك تضارب مصالح واضح بين مسؤولي المصارف والمراقبين الرسميين التابعين للمصرف المركزي. كان الترابط واضحاً وظاهراً في المصالح والإعلام والإعلان، وهذه أبسط مسببات الأزمات المالية. من نتائجها شراء المصارف الوطنية لمصارف أجنبية عبر الاقتراض دون أي دراسة جدية وبالتواطؤ بين الجهات المعنية أي زيادة المخاطر وسرقة مصالح وحقوق أصحاب الأسهم والسندات. قام المراقبون الرسميون بطمأنة الرأي العام أي غشهم، مما يدل على وجود جرائم لم يحاسب عليها المسؤولون وبالتالي تكررت في دول أخرى.
خامساً: قام المصرف المركزي برفع الفوائد على الكرونا لضرب التضخم والحفاظ على سعر النقد الوطني. ارتفعت الفوائد من 5,3% في سنة 2003 إلى 15,25% في سنة 2007 أي ارتفعت تكلفة الاقتراض على الشركات والاستثمارات. لذا قامت المصارف المخصخصة بإعطاء منح للموظفين الذين ينجحون في زيادة الإقراض حتى لو حصل بالنقد الأجنبي. نتج ارتفاع في البورصة وفي الأسعار وبالتالي أزمة. فقد المصرف المركزي السيطرة على السوق.
لماذا وقعت الكارثة بالرغم من التنبيه المتكرر للمخاطر المصرفية الكبيرة؟ أسواء الأمور هو تجاهل المسؤولين للواقع وبالتالي إنكارهم أن الأزمة واقعة حتماً مما عمقها عندما بدأت. الاقتصادي «ستيغليتز» نبه مراراً إلى المخاطر التي تتعرض لها الاقتصادات الصغيرة المنفتحة عندما تحصل أزمات عالمية. تحقق التضخم وبالتالي أصبح الاقتراض بالنقد الوطني مطلوباً كثيراً. انخفض النقد وأصبحت قيمة القروض الحقيقية متدنية جداً. قامت المصارف بربط القروض الجديدة بمؤشر التضخم لحماية نفسها مما عقد الأمور ورفع المخاطر وزاد احتمال وقوع الأزمة في ظل الرغبة المرتفعة للاقتراض لتحقيق الغنى المادي الكبير والسريع. كل الأصول التي حققتها المصارف أصبحت في خطر وبالتالي تحولت معها إيسلاندا إلى دولة فاشلة.
كيف يمكن وصف الوضع الإيسلاندي اليوم؟ عودة النمو إلى حدود 4% والبطالة إلى 4% مع تضخم في حدود 2%. الموازنة متوازنة وميزان الحساب الجاري فائض مع ارتفاع الاحتياطي النقدي إلى 5 مليارات دولار. هل يمكن التأكد أن الأمور لن تعود مجدداً إلى الوراء؟ نأمل ذلك.
لويس حبيقة
* خبير اقتصادي من لبنان
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"