هوامش حول مذكرات عمرو موسى

03:57 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي
دعاني الفقيه القانوني الكبير د. محمد نور فرحات عبر صفحته على (الفيسبوك) لأن أدلي بتعليقاتي على بعض ما جاء في مذكرات عمرو موسى بعنوان (كتابيه)، فرأيت أن أكتب الآن بشكل عام دون الدخول في التفاصيل التي قد نتفق حولها أو نختلف، وكان صاحب المذكرات قد دعاني لكي ألقي كلمة في يوم توقيع كتابه الذي حرك المياه الراكدة وأثار لغطاً شديداً في الواقع السياسي الراهن، وقد عبرت في كلمتي بإيجاز عن تاريخ علاقتي به واكتشافي المبكر لقدراته المتميزة، وألمحت أيضاً إلى تخليه عني في بعض المواقف. وأردفت مباشرة أن موضوعيتي تجعلني أؤكد أنه واحد من أكفأ من شهدت المدرسة الدبلوماسية المصرية، ولم تخل كلمتي من مداعبات تعودت عليها معه صديقاً لي قبل أن أكون مرؤوساً له، واضطررت لأن أبرح المكان لارتباطي بحلقة برنامجي الأسبوعي مع الإعلامي (شريف عامر) وأبلغني بعض من حضروا أنه قد تندر عليَّ أمام الجميع وفي غيابي بأنني ذهبت إلى التلفزيون لأنه يدفع لي، أما توقيع الكتاب فلا عائد منه، وأنا أوافقه على أهمية النقود في حياتي، ولكنني أزعم أنني تلميذ صغير في مدرسته في هذا الشأن تحديداً، وقد عاتبته تليفونياً، ولكنه شرح لي أن ذلك قد جاء في إطار لطيف يقصد به المداعبة وليس التجريح، ولقد اشتدت الحملة ضد ما كتبه، وقد اخترت في هذه المناسبة أن أدافع عن شخصين، أحدهما زعيم أمة، والثاني أستاذ لأجيال من الدبلوماسيين، من بينهم عدد من وزراء الخارجية الذين تعاقبوا على المقعد بدءاً من عمرو موسى ذاته.
أما الزعيم فتاريخه يدافع عنه، قل في عبدالناصر ما شئت سياسياً، ولكن انتزاعه من حياته البسيطة التي يعرفها الجميع وأدركها أنا شخصياً بحكم صلتي بأسرته، فذلك اختيار غير موفق على الإطلاق، يمكن أن تناقش في عبدالناصر قضايا الديمقراطية أو الاشتراكية، وتتفق مع الإصلاح الزراعي أو تختلف، وتتحمس لتأميم القناة أو تتحفظ، ولكن الحديث عن طعام كان يأتيه من (برن) عاصمة (سويسرا) فذلك أمر مختلف، وقد قال لي دبلوماسي مخضرم: إذا كان فتحي الديب السفير حينذاك في العاصمة السويسرية يرسل طعاماً لمؤسسة الرئاسة بمواصفات معينة فمن أدراك أنه لعبدالناصر شخصياً، وقد كان زعيماً زاهداً ارتبط بالفقراء ودافع عن العدالة الاجتماعية.
ولعلّي أذكر هنا قصة حكاها لي الراحل اللواء سامح سيف اليزل العضو الأسبق في مجلس النواب، والشخصية التي برزت على الساحة السياسية في العامين الأخيرين قبل رحيله، لقد قال لي سامح رحمه الله إنه عمل بعد نكسة يونيو/حزيران عام 1967 في حراسة الرئيس الراحل، وجاء دوره لكي يكون مناوباً في إحدى الليالي، فدخل مع الرئيس قاعة السينما الصغيرة التي كان يمارس فيها هواية مشاهدة بعض الأفلام، وقد التفت إليه الرئيس وقال له: قم بتشغيل السينما، فضغط سامح على الزر ليشاهد الرئيس لمدة نصف ساعة ثم قال له: أغلق مفتاح التشغيل واطلب العشاء، ودخل السفرجي الهرم بتروللي يترنح نتيجة عرج أحد عجلاته، ووضع الطعام أمام الرئيس، وكان من الجبنة البيضاء والخبز الجاف، فسأل الرئيس (سامح): هل تناولت عشاءك يا حضرة الضابط؟ فقال له: نعم يا سيادة الرئيس، فرد عليه عبدالناصر: لا، لم يحدث ذلك، فقال له: نعم لم أتناول عشائي يا سيادة الرئيس! فقال له: اطلب العشاء لك، وظل الرئيس الراحل صامتاً أمام طعامه لا يمد يده إليه إلى أن جيء لسامح بطعام مشابه لما يأكله الرئيس، عندئذٍ فقط بدأ الرئيس في تناول وجبته، وهي لم تكن من سويسرا بالطبع على الإطلاق، ولكنها جبنة بيضاء من إحدى قرى محافظة الجيزة.
فالرجل عاش فقيراً وقام بالاقتراض على معاشه في إحدى المناسبات الخاصة بأسرته، هذا هو عبدالناصر الذي عرفناه، وهو ما أدركته الجماهير بحسها الطبيعي ومشاعرها البسيطة، وعندما جرت المصاهرة بين أسرة عمرو موسى وأسرة ابنة الرئيس الراحل عبدالناصر منذ سنوات، اتصلت به يومها وقلت له: إن هذه المصاهرة هي اعتذار تاريخي متبادل بينك وبين ذلك القائد العظيم، ولا بد أن أذكر هنا أنه في إحدى أمسيات أغسطس/آب عام 1968 كنت الملحق الدبلوماسي المناوب في إدارة غرب أوروبا، ودفعني الفضول إلى قراءة بعض الملفات في مكتب السفير الراحل جمال منصور، حيث مقر المناوبة، وإذا بوثيقة تقع في يدي عن تنظيم (الطليعة الاشتراكية) ومجموعتها في وزارة الخارجية، ومن بين الأسماء عمرو موسى الدبلوماسي الشاب، ولقد ذكرت له ذلك بعد رحيل عبدالناصر بسنوات ولم ينكر الرجل تلك الحقيقة، وإن كانت انتقاداته لسياسات الجد الأكبر لأحفاده دائمة، رافضاً لسياسته مصاباً بتحول واضح حل بالكثيرين بعد نكسة يونيو/حزيران المشؤومة، ولذلك فإنني كنت أتمنى على الصديق عمرو موسى أن يوجه انتقاداته للرئيس الراحل في قضايا موضوعية وليس في مسألة هامشية يحيطها الشك من كل اتجاه ولا تتماشى مع شخصية الرئيس عبدالناصر وتاريخه المعروف. أما الشخصية الثانية التي سوف أضعها في إطارها الصحيح وأرد إليها بعض الاعتبار فأعني بها د. أسامة الباز معلمنا وأستاذنا وسوف أتناول ذلك في المقال القادم.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"