واقع الفرانكفونية في عالم متحوّل

04:23 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

تواجه الفرانكفونية تحديات كبرى مع ازدياد نفوذ العولمة الأنجلو - أمريكية، نتيجة لتراجع الأداء الاقتصادي والحضور الثقافي لفرنسا والدول الناطقة باللغة الفرنسية، وبالرغم من كل ذلك، فإن الفرانكفونية تظل تمثل في المرحلة الراهنة إحدى المنظومات اللسانية والثقافية النادرة التي ما زالت تناضل من أجل الحد من الهيمنة شبه المطلقة للغة الإنجليزية، التي تحتل المرتبة الأولى في العالم من حيث الإشعاع الفكري والثقافي والعلمي والاقتصادي، والمرتبة الأولى أيضاً بوصفها أول لغة أجنبية تدرّس في الأغلبية الساحقة من دول العالم، إضافة إلى احتلالها للمرتبة الثانية في العالم بعد اللغة الصينية من حيث عدد المتكلمين بها. كما تواجه اللغة الفرنسية، فضلاً عن التحدي الذي يمثّله اللسان الإنجليزي، منافسة حضارية وثقافية لا يمكن الاستهانة بها من طرف الألسنة الأوروبية العريقة كاللغات الألمانية والإسبانية والروسية.
ويمكننا القول إن الفرانكفونية لا تمثّل فقط توجهاً لسانياً صرفاً، يهدف إلى الدفاع عن حصة اللغة الفرنسية في سوق اللغات العالمية، ولكنها تحيلنا من حيث نسقها الفكري والحضاري إلى الجذور التاريخية للصراع المرير بين فرنسا وبريطانيا، الذي انتهى في نهاية المطاف بسيطرة بريطانيا على القسم الأكبر من مستعمرات العالم، لاسيما في أمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا. وقد أفضت التطورات الجيوسياسية اللاحقة إلى تحوّل تلك المستعمرات البريطانية إلى دول قوية ناطقة باللغة الإنجليزية، وفي مقدّمها الولايات المتحدة الأمريكية التي تشكل في المرحلة الراهنة القوة العظمى الأولى في العالم.
وبالتالي فقد دفعت كل هذه التراكمات التاريخية إلى تحوّل الفرانكفونية إلى شكل من أشكال العقيدة الإيديولوجية المتكاملة القواعد والأركان، هدفها الأساسي هو الدفاع عن «الحقوق المشروعة» للغة الفرنسية في التواجد والانتشار في العالم، إضافة إلى محاولة حماية مناطق انتشار اللغة الفرنسية في مستعمرات فرنسا السابقة، وذلك اعتماداً على منظومة فكرية تدّعي الدفاع عن التعدد اللساني والثقافي في العالم، ومواجهة الأحادية اللغوية التي تسعى الإنجليزية إلى فرضها على العالم. ويدافع عن هذه التصورات الفكرية مجموعة كبيرة من الباحثين واللسانيين الفرنسيين، من أبرزهم كلود حاجيج، الذي حرص في مجمل كتاباته على المطالبة بحماية لغات العالم من الانقراض وإلى حماية التنوّع والفسيفسائية اللسانية التي ظلّت تميّز الحضارة البشرية منذ فجر التاريخ، وهو التنوّع الذي يمثّل بالنسبة لهذا اللسان الفرنسي الثروة الثقافية الأولى للإنسان، من منطلق كون الألسنة هي ترجمة وتجسيد لكائنات حيّة خلاقة ومبدعة، تملك حقها الحضاري في البقاء والعيش في محيط دولي لا يقصي الاختلاف اللساني.
وحرصت الدبلوماسية الفرنسية في السياق نفسه، على تركيز القسم الأكبر من جهودها على دعم الفرانكفونية في العالم منذ تأسيس المنظمة الدولية للفرانكفونية في السبعينات من القرن الماضي. وتضم هذه المنظمة الدولية الآن 84 دولة، يجمعها هدف الدفاع عن مكانة اللغة الفرنسية في العالم، حتى وإن كانت هذه الدول لا تتحدث في مجملها اللغة الفرنسية، بل إن بعضها لا تحتل فيها اللغة الفرنسية مرتبة اللغة الأجنبية الأولى في البلاد، لكنها تتقاسم مع الفرانكفونية، بحسب الديباجة الرسمية لهذه المنظمة الفرانكفونية، مجموعة من القيم، من أبرزها العمل على حماية دولة القانون والدفاع عن التعدّدية الثقافية في العالم.
وعليه فإن الفرانكفونية تعمل جاهدة من أجل إحداث اختراق جدّي في مسار العولمة الحالية، من خلال إقناع المجتمع الدولي بأهمية حماية التراث الثقافي العالمي والتعدّدية اللسانية والثقافية التي تخدم في اعتقادها مختلف الدول الساعية إلى المحافظة على لسانها الوطني في مواجهة المسار الحالي للعولمة الأنجلوأمريكية، الذي بات يهدد مستقبل ومصير الكثير من اللغات الحيّة والعريقة في العالم. وتبدو محاولات المنظمة الدولية للفرانكفونية متناغمة مع التوصيات التي أقرّتها منظمة اليونيسكو في جمعيتها العامة التي انعقدت سنة 2002، والتي أكدت في بيانها الختامي ضرورة احترام التعددية الثقافية في العالم بإجماع كل الأعضاء الحاضرين، وذلك ما يفسر في اعتقادنا جانباً من التحفظ الذي تبديه الولايات المتحدة تجاه برنامج ونشاط هذه المنظمة الأممية.
ويرى الكثير من المراقبين أن اللغة الفرنسية، ورغم احتلالها للمرتبة الثانية من حيث اللغات المترجمة والمرتبة الثالثة في مجال الاقتصاد والأعمال والرابعة في مجال الأنترنيت، إلا أنها لم تستطع أن تسهم حتى الآن، في خلق نهضة تنموية حقيقية في البلدان الأعضاء في المنظمة الدولية للفرانكفونية، نتيجة لغياب سياسة براغماتية وواقعية لدى فرنسا، التي ما زالت سياستها الخارجية تخضع لاعتبارات تغلب عليها الحسابات الإيديولوجية، الموروثة في مجملها عن المرحلة الكولونيالية.
ومن ثمة، فإنه وعلى الرغم من النتائج المتواضعة التي استطاعت أن تحققها الفرانكفونية في مواجهة تيار العولمة الأمريكية الجارف، لأسباب عدّة، ليس هنا مجال التفصيل فيها، إلا أنه بإمكان الدول العربية أن تستفيد من هذه التجربة من أجل دعم مسار التعدّدية اللسانية في العالم والدفاع عن مكانة اللغة العربية على المستويين الإقليمي والدولي، من منطلق أن التطور العلمي والإشعاع الحضاري للأمم لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن التمسك بالهوية اللغوية؛ وبإمكان الدول العربية أن تستثمر في هذا السياق، الصلة الوثيقة التي تربط اللغة العربية بالدين الإسلامي، من أجل نشر لغة الضاد بين كل مسلمي العالم، ومضاعفة عدد الناطقين باللغة العربية، وصولاً إلى إثراء حصة العربية في السوق العالمية للغات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"