«الصحة العالمية».. ساحة جديدة للاستقطاب العالمي

02:55 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. محمد فايز فرحات *

خلال فترة الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبعدهما أيضاً، انشغل منظرو العلاقات الدولية بسؤال مهم هو: كيف يمكن منع نشوب حرب عالمية جديدة؟. وقدم هؤلاء العديد من النظريات لمحاولة الإجابة عن هذا السؤال، فتطورت في هذا السياق نظريات «توازن القوى» التي ذهبت إلى أن التوازن في القوى، سيقود إلى ردع الفاعلين الرئيسيين عن الإقدام على عمل عسكري.
كما تطورت نظريات التكامل بفروعها النظرية المختلفة التي ذهبت في مجملها، إلى أن تحقيق التكامل الاقتصادي على مستوى إقليم ما، سيؤدي بدوره إلى ظهور ما يشبه الهويات الجمعية المشتركة بين دول الإقليم، على نحو يسهم في التحليل الأخير في غياب التفاعلات الصراعية، وقد ينتهي الأمر باندماج هؤلاء الفاعلين والتخلي عن سياداتهم لتأسيس كيان دولي جديد.
تعد التجربة الأوروبية نموذجاً مثالياً حتى وقت قريب لتطبيق هذه النظرية. في الإطار ذاته، تطور اتجاه يرى أنه وإن كان من الصعب تحقيق هذا التكامل على المستوى العالمي، فإنه يمكن الاستعاضة عن هذا المسار بالمنظمات الدولية ذات الطابع الوظيفي الهادفة إلى تنظيم المساحات المشتركة بين الفاعلين الدوليين في المجالات الفنية والوظيفية (الصحة، البيئة، الطيران، النقل، السياحة، الثقافة)، فتطور في هذا الإطار عدد من المنظمات الدولية ذات الطبيعة الفنية والوظيفية، بعضها عمل في إطار منظومة الأمم المتحدة، وبعضها عمل على المستوى الحكومي خارج المنظومة الأممية.


تهديدات غير تقليدية


وقد تمتعت هذه المنظمات بثقل متزايد داخل النظام العالمي باعتبارها نمطاً مهماً من الفاعلين الدوليين تحت تأثير عوامل عدة، أبرزها تعقد السياسات العالمية، وكثافة التفاعلات الدولية، ما فرض الحاجة إلى وجود منظمات دولية ذات طبيعة فنية ووظيفية بالأساس، تكون معنية بتنظيم التعاون الدولي في مختلف هذه المجالات، ووضع القواعد المنظمة لهذا التعاون. كما زادت أهمية هذه المنظمات في مرحلة لاحقة مع تزايد الأهمية النسبية للتهديدات غير التقليدية؛ الأمر الذي فرض الحاجة إلى مزيد من التعاون الدولي، من ناحية، وتعبئة مزيد من الموارد المالية والفنية اللازمة للتعامل مع هذه التحديات التي تصعب مواجهتها بشكل فردي.
وقد جاءت أزمة جائحة «كوفيد 19» لتكشف عن بعدين مهمين في هذا الإطار، أولهما تزايد الأهمية النسبية للتحديات غير التقليدية ذات الطابع العالمي التي تتجاوز الحدود والهويات السياسية، صحيح أن الأزمة فرضت على مختلف الحكومات اتخاذ سلسلة من التدابير «الانعزالية» مثل تعليق الطيران الدولي، ووقف السياحة، وغيرها من الإجراءات، لكنها أكدت في الوقت ذاتها الطابع العالمي لهذا النمط من التحديات. ثانيهما، أهمية الحاجة إلى تعبئة مزيد من الموارد المالية والبشرية، والقدرات العلمية والبحثية لمواجهة هذا التحدي.
هذه المعطيات كانت تتطلب ضمن إجراءات أخرى عديدة مزيداً من الدعم لمنظمة الصحة العالمية باعتبارها الأكثر ارتباطاً بهذا التحدي، لكن على العكس من هذا التوجه، وبدلاً من التدشين لنقاش عالمي جاد حول كيفية تطوير المنظمة، فوجئ المجتمع الدولي بتحولها إلى ساحة للاستقطاب العالمي. صحيح أنه مازالت هناك بعض الأسئلة المعلقة والمناطق الرمادية حول طبيعة فيروس «كورونا المستجد» وطريقة نشأته، لكن هذا الاستقطاب سيحول دون الوصول إلى إجابات محددة عن هذه الأسئلة وغيرها.


ملامح الاستقطاب


تطور هذا الاستقطاب لا يمكن فهمه بمعزل عن طبيعة المرحلة الراهنة في تطور النظام العالمي، فقد بدأت ملامح الاستقطاب في النظام العالمي في التطور قبل ظهور أزمة «كوفيد 19»، وكان أبرز ملامحها الحرب التجارية التي دشنتها الإدارة الأمريكية ضد الصين عام 2018؛ الأمر الذي يؤكد أن فاعلية المنظمات الدولية بشكل عام بما في ذلك المنظمات الفنية الوظيفية تعتمد على طبيعة المناخ العالمي، وحجم التوافق القائم بين القوى العالمية الرئيسية بشكل عام، وحول هذه المنظمات بشكل خاص.
تحويل منظمة الصحة العالمية إلى ساحة للاستقطاب العالمي، ستكون له العديد من التداعيات السلبية، أبرزها يتعلق بالتأثير في فاعلية المنظمة في القيام بوظيفتها الأساسية كساحة لتنظيم التعاون العالمي في مجال الصحة بشكل عام، وفي مواجهة التحديات غير التقليدية المرتبطة بهذا القطاع بشكل خاص.
هذا النمط من المنظمات لا يمتلك سلطات فوق الدولة، ومن ثم، فإنها لا تستطيع القيام بدورها بفاعلية في ظل غياب الحد اللازم من التوافق والتعاون والدعم الدولي اللازم لها، إضافة إلى ذلك اعتمادها في عملها على الدعم المالي المقدم من الفاعلين الدوليين. وهكذا، وفي حالة استمرار هذا الاستقطاب، ليس من المتوقع أن تقوم المنظمة بدورها المنوط بها بفاعلية، ولن يكون بمقدورها تمويل أنشطتها الرئيسية، وقد تلجأ كجزء من محاولة الحفاظ على وجودها إلى القيام ببعض «المواءمات السياسية» التي ستأتي على حساب أدوارها الفنية.


تداعيات التخلي الأمريكي


وفي هذا السباق، إذا افترضنا تخلي الولايات المتحدة عن المنظمة والتمسك بقطع الدعم المالي عنها، فقد يفتح هذا المجال واسعاً أمام اعتماد المنظمة مالياً على قوى دولية بعينها، حيث تبرز الصين هنا كمصدر مهم للتمويل.
صحيح أن الدعم الصيني للمنظمة ما زال حتى الآن ليس الدعم الأكبر، حيث يأتي في ترتيب تالٍ بالمقارنة مع الولايات المتحدة، لكن في ظل حالة الاستقطاب الراهنة، وفي حالة استمرار تخلي الولايات المتحدة عن المنظمة، فقد يفتح ذلك المجال أمام تزايد الدعم المالي الصيني للمنظمة كجزء من الصراع واسع النطاق على النفوذ العالمي في مجالات عدة، بينها وبين الولايات المتحدة. توسيع حجم النفوذ الصيني داخل منظمة الصحة العالمية، سيمثل في هذه الحالة، مدخلاً مهماً ليس فقط لتوسيع النفوذ الصيني، ولكن سيكون ساحة إضافية لتغيير قواعد «المحكومية الدولية»، وهو جزء من توجه صيني حثيث في مجالات عدة أخرى، مثل الملاحة الجوية والبحرية.
لكن حتى مع تزايد الدعم المالي الصيني المحتمل للمنظمة ما قد يوفر لها القدرة على تنفيذ أنشطتها الرئيسية فإن ذلك سينال من طابعها كمنظمة عالمية، كما سينال أيضاً من قدرتها على تنفيذ أجندتها بالكفاءة المطلوبة؛ بل سيؤدي إلى تعميق حالة الاستقطاب الدولي، وسيدشن لانتقال هذا الاستقطاب والصراع إلى مجالات فنية ووظيفية أخرى؛ الأمر الذي سيؤثر في قدرة المجتمع الدولي على إدارة ومواجهة التحديات غير النمطية المتزايدة.

* رئيس وحدة العلاقات الدولية في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"