الإرادة لا تعترف بالمستحيل

12:52 مساء
قراءة 15 دقيقة

الإرادة هي السلاح الحقيقي الذي يمتلكه الإنسان وبه يقهر المستحيل، ويحول الصعب إلى ممكن، وفي كل يوم تسجل صفحات الحياة أكثر من اسم بمشارق الأرض ومغاربها، لنماذج قدمت نتاجاً علمياً وأدبياً وفنياً يعتبر كنوزاً تحكي قصصاً حية لأصحابها الذين لم يتوقفوا عند فقدان حاسة أو أكثر، ومضوا قدماً في طريقهم معتمدين على إحساسهم وبصيرتهم، مقدمين دروساً مجانية لملايين الأصحاء في حب الحياة وكيفية معايشتها والاستمتاع بها . والأمر ليس بحاجة للذهاب بعيداً، فحولنا وبالقرب منا معاقون مبدعون لم تتوقف مسيرتهم عند أي تحديات وعوضهم الله عما فقدوه ما يستطيعون به التفوق على من يملكون أعضاءهم وحواسهم كاملة .

دروس مجانية في حب الحياة

مواهب خارقة للعادة

إعداد: عبير حسين

بين الحلم والأمل، والإعاقة والعزيمة، برزت شخصيات عالمية تحدت ظروفها الخاصة وكسرت قيود واقعها الأليم، وذهبت بقدراتها التي هي منح إلهية إلى أبعد مدى فكانت نماذج راقية، وتجارب مميزة، وعبراً حقيقية لملايين الأصحاء . والقائمة تطول لتضم مئات المشاهير الذين سجلت صفحات التاريخ معاناتهم، وعذاباتهم مع أمراض، وإعاقات مختلفة قهروها بإرادة حديدية .

قدمت الأديبة الأمريكية هيلين كيلر أول هذه الدروس في الإرادة الإنسانية، عندما تغلبت على إعاقتها التي حرمتها من نعمتي السمع والبصر بظل ظروف جعلتها تستحق لقب المعجزة . وكان عميد الأدب العربي د .طه حسين أحد أبرز دعاة التنوير بالعالم العربي، ولم يعقه فقدانه نعمة البصر صغيراً عن مواصلة التعليم حتى حصل على الدكتوراه من جامعة مونبيليه الفرنسية، وتدرج بالمناصب الجامعية حتى عين وزيراً للمعارف في مصر .

ويبقى النموذج الإنساني للموسيقار الألماني لودفيج فان بيتهوفن دليلاً على قوة الإرادة الكافية بإلغاء مفردة مستحيل، إذ يعد من أبرز عباقرة الموسيقا على مر العصور، وله الفضل في تطوير الموسيقا الكلاسيكية، وعلى الرغم من فقدانه حاسة السمع بالثلاثينات من عمره إلا أن ذلك لم يؤثر في إنتاجه الذي زاد في تلك الفترة، وتميز بالإبداع خاصة السيمفونيات الخالدة التي تشكل حتى اليوم علامة بتاريخ الموسيقا العالمية .

ولا يقتصر مفهوم المعاناة جراء الإعاقة على فقدان حاسة أو طرف من الجسد، فأحياناً يخلف عذاب الإصابة بمرض ما، آلاماً فوق طاقة البشر، وأحيانا يدفع أصحابه إلى تميز وتفوق يجعلهم موضع حسد ملايين الأصحاء .

من منا يتخيل إن قائمة تضم عظماء مثل الرسام فان كوخ، والعالم إسحاق نيوتن، ونابليون بونابرت، والكاتبة أجاثا كريستي، والأديب تشارلز ديكنز، والفريد نوبل، ورسامي عصر النهضة مايكل أنجلو، وليوناردو دافنشي، جميعهم عانوا مرض الصرع، وفي كل نوبة كانت تسقط أحدا منهم، كان يستفيق بعدها أكثر قوة، وإلهاماً .

وبعيداً عن سجلات التاريخ، وبالوقوف على أرض الحاضر يقدم البروفيسور البريطاني ستيفن هوكينج أكثر نماذج الإرادة الحية بعالمنا المعاصر، فهو ابرز علماء الفيزياء النظرية والرياضيات التطبيقية على مستوى العالم، وعلى الرغم من إصابته بمرض التصلب الجانبي العصبي منذ كان عمره 21 عاماً، إلا أنه لم يتوقف عن التحصيل العلمي والحصول على أعلى الشهادات الجامعية ومن بعدها التدريس بأرقى الجامعات مثل أكسفورد، وكمبريدج، وهو صاحب نظريات متطورة في عالم الكون وأشهر من قدم دراسات علمية عن سر الثقوب السوداء بالفضاء الواسع، ومازال إنتاجه العلمي غزير بالرغم من معاناته مع مرض لم يكتشف له علاجاً حتى الآن .

وهوكينج أسطورة حية تقدم كل يوم دروساً بفنون الحياة، استطاع تحويل نظرات الشفقة على حاله لأنه أسير مقعد خاص غير قادر على القيام بأبسط الحركات مثل تحريك اليدين وغيرها إلى نظرات إعجاب وتقدير لقدراته وذكاؤه الفذ .

وإذا كانت النماذج السابقة تحظى نصيبها من الشهرة، فإن هناك المئات غيرهم ممن قهروا إعاقتهم، وواصلوا حياتهم بنجاح، بل وتفوقوا في مجالات كان الكثيرون يعتقدون أنها حكر على الأصحاء . ولأنه من الصعب بمكان حصرهم بكل المجالات حول العالم، سنقتصر العرض هنا على مجال الفنون وخاصة الرسم الذي قدم عشرات الرسامين من مختلف دول العالم عبره قصصاً إنسانية راقية، رسموها بفرشاه العزيمة، ومنحوها ألوان الأمل، وإذا كان الرسام التركي الكفيف أشرف أرمجان يتمتع بشهرة واسعة جنتها لوحاته المميزة، فهناك آخرون لا نعرفهم يستحقون إلقاء الضوء عليهم، وتقديمهم نماذج ألهمها إحساسها وبصيرتها فكانا خير عوض عن فقدانهم نعمة البصر:

من هؤلاء الرسامة والكاتبة الأمريكية ليزا فيتابالدى التي احترفت الرسم عام ،1995 بعد عامين على فقدانها البصر إثر إصابتها بمرض نادر في الأوعية الدموية يعرف بمتلازمة واجنر، تغير على إثره إيقاع حياتها، وألقى بها إلى بحور الاكتئاب والحزن، وبعد فترة عثرت على سلوتها في الفرشاة والألوان، وأبدعت لوحات لا يصدق من يراها أن صاحبتها كفيفة، تعد الرسم عالمها الخاص الذي ترى فيه بوضوح كافة التفاصيل، ويعكس بصدق مشاعرها، ويحافظ على لياقتها الذهنية، وعلى تواصلها مع العالم الخارجي .

قدمت ليزا فيتابالدى أكثر من 400 لوحة زيتية، عرضت بعدد من أشهر المتاحف والمعارض حول العالم، واعتمدت في رسمها على مخزون ذكرياتها عن الأماكن والأشخاص، وشكل الحياة قبل فقدانها البصر ،1995 وعقلها الباطن ورؤيتها الخاصة للأشياء . وبالرغم من الشهرة الواسعة التي حققتها أعمالها التي كانت موضع إعجاب كبير إلا أنها قررت قبل عدة أعوام التخلي عن الرسم وبيع الأستوديو الخاص بها بمدينة بوسطن الأمريكية، وانتقلت مع زوجها إلى بنما بأمريكا الوسطى لإجراء عدة جراحات بالعين علها تعيد إليها البصر، إلا أن الحظ لم يوافقها، وعادت مجددا للولايات المتحدة، لتكتشف في نفسها موهبة أخرى رائعة لا تقل عن الرسم، وهى الكتابة، فقدمت خلال عام واحد ثلاث روايات حققت أرقام مبيعات خيالية، لتنتقل من نجاح إلى آخر .

وبالعام 2000 أنشأت مؤسسة عين العقل غير الربحية الهادفة إلى توفير دعم للموهوبين المكفوفين، والصم، خاصة من الأطفال .

ويمكن مشاهدة لوحاتها الرائعة عبر زيارة موقع

www.blindartist.com

على شبكة الإنترنت .

أما الرسام الروسي الشهير فنياً بلقب ديميترى، فلم تقتصر ممارسته للرسم على الهواية، والتعبير عن الذات فقط، بل تعداها ليصبح صاحب أحد أكبر المعارض في أوكرانيا، له جمهور عريض يتابع بشغف لوحاته التي تحقق نسب مبيعات عالية .

وديميترى كان أحد هواة الرسم حتى أصيب برأسه قبل عدة سنوات أثناء نزهه بإحدى الغابات، عندما سقط عليه جذع شجرة مسبباً إصابة مباشرة لمراكز العصب البصري بالمخ . وبعد عدة اشهر من العلاج وتأكد فقدانه للبصر، استجمع عزيمته وقرر افتتاح أول معارضه التي قدم بها أعمالاً سابقه على فقدانه البصر، ثم واصل الرسم حتى قدم أكثر من 250 لوحة فنية، كل منها تحفة ثمينة بحد ذاتها .

الفنان الأمريكي جون برامبليت من دينتون بولاية تكساس، فقد بصره بالعام ،2001 ولجأ إلى الرسم لإعادة تشكيل عالمه الخاص الذي يلفه الظلام، ومن عجب أن لوحاته سجلت أرقام مبيعات قياسية في أكثر من 20 دولة عرضت بها، وحقق شهرة واسعة لم يتخيلها يوماً، وأصبح وجهاً معروفاً وضيفاً دائماً على شاشات التلفاز المختلفة، في كل دولة يحل عليها ضيفاً بأحد معارضه . وحصل العام الماضي على جائزة الخدمة الرئاسية التي يمنحها البيت الأبيض سنوياً للمتميزين بمختلف المجالات . ولم يتوقف تميزه عند حدود، فعمل على تقديم خدماته للأطفال هواة تعلم الفنون، إذ يقدم دروساً مجانية في العديد من المراكز العامة بمختلف الولايات .

ومن أقصى بقاع الأرض يطل صاحب أطول التجارب الإنسانية في الرسم المعتمد على الإحساس الرائع، والبصيرة النافذة، من دون أن يتمكن على مدار 35 عاماً مشاهدة أياً من لوحاته سواء قبل رسمها أو حتى بعد تنفيذها، مكتفياً بعبارات الإشادة والاستحسان التي تصله من كل من يشاهدها . انه الفنان الفيتنامي لي دو يونغ، الذي فقد البصر عام 1973 إثر انفجار لغم أرضي أطفأ نور عينيه، ولم يصب عقله وقلبه اللذين ظلا ينبضان بإحساس راق عبر عنه في كل لوحاته .

ومن إسكتلندا يطل الرسام والنحات كيث سالمون الذي ينتمي إلى مدرسة الفن التجريدي، وتخصص لسنوات طويلة حقق بها شهرة واسعة في أعماله النحتية خاصة من الفولاذ والأخشاب، وبعد فقدانه البصر تحول إلى رسم اللوحات الزيتية، ولديه معرض كبير بمدينة ايرفين يقدم به سنوياً ما يزيد على 50 لوحة تلقى إقبالا كبيراً من الجمهور .

وعلى مقربة منه يقدم الرسام البريطاني سارجى مان معارض سنوية بمعرضه الدائم بالعاصمة لندن، وعلى الرغم من فقدانه البصر قبل نحو عقدين عندما كان بالسادسة والثلاثين من العمر، إلا أنه استمر في تشكيل حياته عبر لوحاته النابضة بالألوان، ويعتبر انه قدم أفضل ما لديه وهو كفيف .

ولم تقتصر إبداعات الرسامين والموهوبين على المكفوفين فقط، بل شملت آخرون فقدوا أطرافهم، واستعاضوا عن أناملهم بأقدامهم التي حملت الإحساس إلى الفرشاة، ومنها إلى اللوحات ومن أشهرهم الفنان بيتر لونجستاف الذي ولد فاقداً كلتا يديه بسبب تناول والدته عقار الثاليدمويد وكان يوصف طبياً على نطاق واسع لعلاج الإعياء الصباحي لدى الحوامل، ومنع فيما بعد اكتشاف تسببه بحدوث تشوهات للأجنة .

لونجستاف لم يتوقف كثيراً عند ذراعيه المفقودتين، ودرب قدميه على القيام بكل الوظائف، حتى الإمساك بالفرشاة بمهارة يحسده عليها ملايين الأصحاء .

أما الفنانة الأمريكية أليس شونفيلد فأقعدتها عدة سكتات دماغيه تعرضت لها ونجت منها بأعجوبة، لكنها استمرت في واحد من أصعب الفنون وهو النحت على الرخام، ومعرضها في مدينة كاليفورنيا مزدحم دائماً بالزوار، وعلى الرغم من معاناة الرسامة البنميه ويللو باسكوم من مرض الذئبة إلا أنها تقدم أعمالا رائعة، وتحقق لوحاتها أرقام مبيعات خيالية، خاصة بعد ترويجها عبر مزادات على شبكة الإنترنت .

والرسام الأمريكي مات سيسو متعدد المهارات على الرغم من فقدانه أحد ذراعيه بعد تعرضه لحادث طيران أودى بحياة والده عندما كان بالسادسة، وعلى الرغم من حجم المأساة التي واجهها طفلاً، أصبح نموذجاً رائعاً بعد نيله شهادة في البرمجيات الحديثة وعلوم الكمبيوتر، ويعمل حالياً لدى إحدى شركات التقنية الكبرى في كاليفورنيا، وسيمثل بلاده ضمن فريق ذوي الاحتياجات الخاصة المشارك بأولمبياد لندن القادمة، إضافة إلى هواية الرسم التي يبدع من خلالها لوحات تقدم بمعارض موسمية .

والفنان مايكل موناكو أدهشت لوحاته كل من شاهدها لأنه رسمها بفمه لمعاناته من شلل وضمور بالأطراف لم تمنعه من التعبير عن ذاته، وعالمه عبر لوحاته، وهو أحد الأعضاء المؤسسين لاتحاد رسامي الفم والأقدام، ويمكن الاطلاع على أعماله عبر موقعه على شبكة الإنترنت

www.michaelmonqaco.com

ويعمل بنفس التقنية لمعاناته من الشلل زميله دينيس فرانسيسكونى، الذي تتميز أعماله بدقة التفاصيل، وشاركت لوحاته المميزة بأكثر من 75 معرضاً فنياً حول العالم .

ويعد ايريك ستيجمان رئيس اتحاد رسامي الفم والقدمين واحداً من أبرع الرسامين، وكان فقد أطرافه بسبب إصابته بمرض شلل الأطفال عندما كان بالثانية من العمر، ولم يمنعه ذلك من التعبير عن فنه وإحساسه بفرشاة حملها بين أسنانه . أما الفنان سايمون مارك سميث فاقد اليمنيين (اليد والقدم) فيعمل مصمماً للمواقع على شبكة الإنترنت، ورسام وشاعر .

أما الفنانة جيسى بارك من ولاية ماساشوستس فتعاني إعاقة مختلفة عن سابقيها، فهي مصابة بالتوحد، وعلى الرغم من ذلك تقدم لوحات بالغة الدقة، تثير دهشة من يراها خاصة أن ترسم من الذاكرة التي يمكنها استيعاب آلاف التفاصيل الصغيرة، ويمكن مشاهدة نماذج من أعمالها عبر موقعها الخاص على شبكة الإنترنت www .jessicapark .com .

ويشاركها الفنان الفرنسي كريستوف بيلوت نفس المعاناة مع مرض التوحد، لكنه أسوأ حالاً، فهو غير قادر على التكلم، أو المشي، أو حتى إطعام نفسه، لكن المرض لم يمتد إلى قلبه وعقله، فأبدع لوحات رائعة وجدت إقبالاً شديداً بعشرات المعارض الدولية التي جابتها .

وعلى نفس النهج يقدم الفنان جورج ويدنير الذي يعاني التوحد أيضاً، أعمالاً باهرة، ليس لدقتها وجمالها البصري فقط بل لاحتوائها على معادلات حسابية، وأرقام بطريقة مدهشة لم يسبقه إليها أحد، وأشهر لوحاته تلك التي رسمها عن حادث غرق السفينة تايتنيك، وبأسفلها حسابات مختلفة لمستويات المد والجزر، وتقديرات للأسباب وراء الكارثة، ويمكن الاطلاع على أعماله عبر موقع www .savantartist .com .

ولعل أصغر المواهب التى تعاني متلازمة اسبرجر (أحد أشكال التوحد) فهي الفنانة الطفلة آماندا لامينون وعمرها 12 عاماً، وبدأت الرسم منذ كانت بالسابعة، وتتميز لوحاتها بالتفاصيل المتعددة التي تذهل من يراها، وتجعله يتساءل كيف لعقل طفلة إدراك كل هذه التفاصيل، والاحتفاظ بها، وتقديمها بدقة بالغة على اللوحات . ويمكن مشاهدة لوحاتها على موقعها

www.amandaalamunyon.com

قاهر التوحد

يعد الرسام البريطاني ستيفن ويلتشاير أشهر الرسامين البريطانيين على الرغم من معاناته الشديدة التوحد الذي بدأ بسببه تعلم الكلام وهو في التاسعة من عمره، أما الآن فالرسام الشاب الذي يطلق عليه الرسام المعماري بارع في إنجاز لوحات عملاقة يصل طولها إلى 18 قدماً، وأول أعماله التي لفتت الانتباه إلى موهبته الاستثنائية كان طولها 10 أقدام رسمها لمعالم مدينة لندن بالاعتماد على مطالعته لكتب مصورة مخصصة لتعليم الصغار، وانتقل بعدها لرسم عدد من المعالم العالمية الشهيرة مثل سور الصين العظيم، وبرج ايفل، وأدهش الملايين بعدما تمكن من رسم لوحة عملاقة لتفاصيل دقيقة لمعالم مدينة نيويورك بعد مشاهدتها لأول مرة بحياته، وخلال رحلة بمروحية استغرقت 20 دقيقة فقط . ويمكن مشاهدة أعماله عبر موقعه.

www.stephenwiltshire.co.uk

الجنون فنون

الرسام جوزيف كارتن نموذج غريب لفنان يعاني مرض اضطراب ثنائي القطب وهو نوع من الخلل العقلي، جعله نزيل عدد من المصحات النفسية والعقلية بولاية كاليفورنيا لسنوات طويلة . وعلى الرغم من ذلك تعكس لوحاته عمقاً وجمالاً واتزاناً لا نعرف من أين يأتي به، إذا كانت قدراته العقلية متواضعة بحسب التشخيص الطبي .

ويمكن الحكم على أعماله، ولوحات فنانين آخرين عبر الموقع

www.disabledartistsguild.com

* * *

الرسام التركي الكفيف يعتبر الألوان شيئاً مبللاً

أشرف أرمغان: أرى بأصابعي

قالوا عنه إنه فنان فوق العادة، ووصفوه بأنه معجزة لن تتكرر، أما هو فقال عن نفسه: أنا شخص عادي كل ما يميزه عن غيره هو قدرته على الرؤية بأصابع اليد . هو الرسام التركي الكفيف أشرف أرمغان الذي كرّمه الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون بعد أن رسم له صورة خاصة من دون أن يراه، وحل ضيفاً على الإمارات من خلال المعرض الخيري لمؤسسة نور دبي، ليتبرع بمجموعة من لوحاته الفنية لمصلحة مرضى العيون .

أثناء المزاد الخاص ببيع لوحاته التقيناه ودار معه هذا الحوار . .

حوار: أميرة عبدالحافظ

كيف كانت بدايتك مع هذه الموهبة الفريدة والمميزة؟

- عمري الآن 59 عاماً لم أرَ نور الخالق في الطبيعة منذ أول لحظة في عمري، لأنني ولدت فاقداً لنعمة البصر، وكنت أعيش في أحضان قرية بسيطة مع أسرة فقيرة، تمتلك إمكانات محدودة، لكن مع كبر سني أدركت أن هناك شيئاً ما مختلفاً بداخلي، وأن الله سيعوضني عن فقدان هذه النعمة، وبعدها بدأت رحلتي مع الألوان واللوحات، لأضع أول خطوطي من خلال وصف أسرتي للمناظر الطبيعية وكل ما يحيط بنا من جمال الطبيعة وأشكالها .

ما الفرق بين اللوحة الأولى التي رسمتها والأخيرة حتى الآن؟

- أول لوحة رسمتها عندما كان عمري 12 عاماً، وكانت لفراشة جميلة تخيلتها من خلال الوصف، وقمت بإنجاز لوحة أعتز بها ولا أستطيع أبداً مهما زاد عدد لوحاتي أن أنساها أو أنسى تلك اللحظات التي مسكت فيها قلم الألوان ووضعت أصابعي على الورق الخاص بالرسم لأضع أولى بصماتي في هذا العالم الساحر، وفي هذه اللحظة تحديدا فقدت الإحساس بعدم الرؤية وأدركت أنني أمتلك ما هو أهم وهو الإحساس نفسه، أما اللوحة الأخيرة فكانت لجسر طالما تمنيت أن أراه باعتباره جزءاً من الطبيعة والبيئة التي أحياها، ورسمته على لوح بلاستيكي من مخيلتي أيضاً، لكنني استخدمت بعض الخيوط الرفيعة حتى أتمكن من تحديد أبعاد اللوحة .

ماذا عن لوحة برج خليفة التي رسمتها في الإمارات؟

- هي فعلاً آخر لوحة لي لكن بعيدا عن أرض الوطن، وبعيداً عن حجرتي الخاصة في اسطنبول، وبعدها عرفت أن هذا البناء الضخم هو صرح عظيم، من قام بتصميمه شخص مثالي وعبقري، فأنا من خلال لمسي المجسم الخاص به أدركت أنه تحفة معمارية كتب لها الصمود والبقاء أمام كل عوامل الطبيعة، لذلك شعرت بسعادة بالغة عندما نال رسمي له إعجاب شعب هذا البلد الطيب الكريم مثل كل حكامه .

كيف تتمكن من معرفة أبعاد لوحاتك وبهذه الدقة؟

- كل إنسان بداخله نور خاص به يمكنه من رؤية الأشياء وتحديدها بطريقته الخاصة، وهذا النور يعتمد في الأساس على قوة الإحساس بالأشياء والأحجام، فكم من مبصر بعيونه يرى الناس وطبيعة الله الخلابة، لكنه فاقد للبصيرة والإحساس . وإذا كنت فقدت نعمة البصر فلدي الإحساس وأصابع يدي التي أرى بها، من خلال حاسة اللمس وتحسسي كل ما يحيط بي، وبناء شكل له في ذهني أضعه في النهاية على الورق .

وكيف تتعرف إلى الألوان بهذه الدقة التي تظهر في كل لوحاتك؟

- في كل رسوماتي ومعرفتي للأحجام والألوان أعتمد على سؤال الآخرين، الذين يقدمون لي يد المساعدة من خلال الشرح والوصف الدقيق، لكن أثناء الرسم أضع أمامي أطباق الألوان حسب ترتيب معين بالأرقام، بمعنى أن الأحمر مثلا رقم واحد، والأخضر يليه وهكذا، وهنا ألتزم بضرورة حفظ الترتيب بدقة لأنني لو نسيته فإن كل شيء سينهار وتظهر اللوحة من دون معالم .

إذا طلبت منك تقديم وصف للون الأحمر فماذا ستقول؟

- لا شيء يدور في ذهني، لأن الأصباغ أو الألوان بالنسبة إليّ شيء مبلل، أتحسسه فقط، لكن أنا أعرف أن الأحمر هو لون النار، الكرز والتفاح، وهذا ينطبق على بقية الألوان .

هل هناك من يقف بجوارك أثناء الرسم لمساعدتك؟

- بعد أن أحدد أبعاد اللوحات وأضع ترتيب الألوان وأجهز كل أدواتي أمامي، أفضل عند بداية الرسم أن أكون وحيدا، لأنني أحتاج إلى تركيز وهدوء حتى لا أتشتت وتؤثر أي عوامل خارجية في اللوحة، كما أن الله وحده يعطيني العقل والمخيلة للتفكير بمنطقية الرسم .

عن طريق اللمس تتمكن من تخيل شكل المنظر الطبيعي، لكن ماذا عن رسم الشخصيات؟

- قمت برسم بورتريه للرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون وكان من أفضل اللوحات التي رسمتها، لدرجة أنه انبهر هو الآخر بها وقام بتكريمي بسببها وأضع شهادة التقدير التي أهداني إياها داخل غرفتي، وطبعاً لم أتحسس وجهه، لكنني باستخدام المنطق أتمكن من العثور على عمق المعنى، مثل التعمق في الصوت واللهجة وما إلى ذلك، كما أنني اعتمدت على وصف وجه هذا الرئيس بدقة، والتعمق في شخصيته وأفكاره، والفضل لله في أنني وفقت وظهرت الصورة بالشكل الذي قال عنه الجميع إنه مبهر .

لكنك أدهشت العالم كله وحيرت علماء وأطباء أمريكا بسبب هذه اللوحات .

- فعلاً كنت محور مجموعة دراسات علمية هناك وخضعت لعدد من الدراسات والاختبارات البصرية والعقلية، ومنها دراسة التصور البشري التي أجراها العالم الأمريكي جون كينيدي في جامعة تورنتو عام ،2004 وخصصت كلية الطب في جامعة هارفرد دراسة خاصة لمعرفة كيف أتمكن من نقل مناظر وأشكال لم أرها في حياتي، وفي النهاية تأكدوا من خلال كل هذه الدراسات من قدرتي على امتلاك موهبة خاصة منحها لي الخالق عز وجل، وأن حاسة البصر عندي لم تنضج منذ لحظة الولادة، كما أن مخي لا يشعر إطلاقاً بالضوء .

هل تشعر بالضيق أو الإحراج من كلمة أعمى؟

- لست أعمى، لكنني أرى بإحساسي ومخيلتي وأصابع يدي، وأنا بفضل الله شخص ناجح ومتميز ومؤمن بقضاء الله، فلماذا أشعر بأي ضيق؟ والأعمى هو مَنْ لا يملك البصيرة .

ألم تتلقَ يوماً تدريباً خاصاً في الرسم؟

- لم يحدث إطلاقاً، لكنني اشتركت في عدد من المعارض الدولية وعرضت لوحاتي أمام أعداد كبيرة من المختصين وأهل العلم وأشادوا بها جداً .

وكيف طوّرت من موهبتك من دون دراسة؟

- مع تقدم عمر أي إنسان حتى ولو كفيف يكتسب خبرات ويتعلم من الدنيا العديد من الأشياء المفيدة التي تمكنه من تطوير ذاته، وهذا ما حدث معي، فعندما بدأت في وضع أول خطوطي الفنية وأنا طفل لم يتعد عمري 6 سنوات كنت اعتمد على الورق الرصاص وأرسم على علب الكارتون، وعندما دخلت لمرحلة الشباب اكتشفت أدوات وأساليب مختلفة ومتقدمة وبدأت أرسم بأطراف أصابعي، أولا على الورق بالأقلام العادية، ثم بالألوان الزيتية، وعندما وصلت إلى سن 42 عرفت أن هناك شيئاً يسمى الإكريليك سريع الجفاف، وهكذا طوّرت من نفسي من دون اللجوء لأي معلم أو متخصص، كما أنني أعتبر طريقتي في الرسم خاصة بي تشبه طريقة برايل في الكتابة، فأنا ابتكرت الرسم عن طريق اللمس .

ما أهم المعارض التي شاركت فيها؟

- معارض كثيرة جداً تفوق ال ،20 في هولندا والتشيك وأمريكا والصين، ومهرجان بنالي للفن الأوروبي العام الماضي، وحالياً أنا في الإمارات كمشارك في المعرض الفني الخيري لمؤسسة نور دبي، الذي تشرفت من خلاله بلقاء مجموعة من الشخصيات البارزة في الدولة على رأسها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، وشعرت بفخر شديد وامتنان خاص بسبب هذه المشاركة التي ستضيف المزيد لتاريخي الفني، وعرضت أيضاً 3 لوحات فنية في المزاد الخاص بمؤسسة نور دبي، حيث سيذهب ريعها لمصلحة مرضى العيون .

لكن ما أهم الصعوبات التي واجهتها أثناء مشوارك الفني؟

- الله خلق الإنسان وميزه عن بقية المخلوقات حتى يتمكن من تذليل كل الصعوبات والمشكلات التي تواجهه، لذلك منحنا العقل والقدرة على التفكير والتأمل والإبحار في مراكب الحياة الفكرية والعلمية، لذلك هناك بيتهوفن وبرايل، وغيرهم كثيرون تحدوا مشكلات أصعب بكثير من تلك التي واجهتها لكنهم تغلبوا وانتصروا عليها، وأصبحت أسماؤهم علامة تميز وتفوق تتعلم منها الأجيال، وهذا ما فعلته وتمكنت من تسخير كل الصعوبات والمشكلات التي واجهتني ولم أتعلل أبدا بالظروف، لكن الشيء الوحيد الذي مررت به وكان صعباً هو إقناع الناس بأن شخصاً ولد كفيفاً هو من قام برسم هذه اللوحات .

هل تتابع التقنيات الفنية الحديثة في الرسم؟

- رغم قدرتي على متابعة كل ما هو جديد، أعتمد في رسوماتي على طريقتي الخاصة التي ابتكرتها بنفسي من ذهني ومن أطراف أصابعي حتى أشعر بقيمتها وجمالياتها الفنية .

هل قمت برسم نفسك؟

- نعم، لكن في الحقيقة كان عمري في اللوحة أكبر من الحقيقة، هكذا تخيلت نفسي .

هل هناك مناظر وشخصيات تتمنى أن ترسمها؟

- كل المناظر الطبيعية أتمنى أن أجد وقتاً وقدرة لرسمها، وكل شخصية عظيمة حققت نجاح لدولتها مثل أصحاب السمو حكام الإمارات الذين أتمنى تقديم لوحات خاصة لهم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"