حصن القلب

03:23 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمد إسماعيل زاهر


(1)

لا يحتفظ معظمنا بذكريات جيدة مع منهج الأدب خلال مراحل التعليم قبل الجامعي، كانت هناك دائماً مشاكل عدة في هذا المنهج، لا تبدأ بأسلوب التدريس ولا تنتهي بالمحتوى المقرر على الطلبة، والأمر لا يتعلق بالمدرسة وحسب ولكن غالباً ما يمتد إلى الأهل وسوق العمل، ففي البيت كان التركيز على ضرورة تحصيل أعلى العلامات في المواد العلمية، أما سوق العمل فهو يخلو من وظيفة مرموقة لدارس الأدب.
الأدب محاصر من جهات ثلاث، من داخل المقرر نفسه، ومن أمل الأهل في الطالب، ومن فضاء مجتمعي لا يعدو أن يكون فيه الأدب أكثر من هواية تمارس على هامش أي مهنة أخرى، ولكن لنترك الأهل والمجتمع، ونلتفت إلى منهج التعليم، فعلى أساسه يتشكل اتجاه الإنسان نحو الأدب، هل هو محب له أم كاره؟، هل يهتم به أم يجده مجرد لغو فارغ وكلام مخصص لأوقات الفراغ؟، هل يتأثر به أم لا يلتفت إليه إطلاقاً؟.
تكرس مناهج التعليم في أغلب بلداننا العربية لفكرة عدم الالتفات إلى الأدب، ولا تؤمن بدوره في تشكيل الذائقة، وتحصين القلب، ولم تبتكر أي طرائق جديدة تستطيع من خلالها جذب الطالب لكي يشغف به، وبخلاف المواد العلمية التي تخصص لها المعامل والتجارب الحية الخلابة والجغرافيا التي أصبحت تُدرس من خلال خرائط ملونة وربما إليكترونية، تبقى مناهج الأدب والتاريخ والفلسفة، أي حزمة العلوم الإنسانية، خارج مناخ العصر، لا علاقة لها بالحياة، ولا يوجد ما يربطها بواقع الطالب، ومعظم الطلاب الذين التحقوا بأحد هذه التخصصات في المرحلة الجامعية لاحقاً فبسبب المجموع في الثانوية العامة، أما من شغف بالأدب وواصل طريقه فيه فلأسباب لا تعود في الغالب إلى المنهج التعليمي.

(2)

يحلو للبعض أن يوجه نقده إلى أسلوب الحفظ والتلقين المميز لتدريس الأدب عند التعاطي مع هذه المسألة، ولكنهم يتناسون أن معظم ما يرددونه من أشعار أو مشاهد سردية عالقة بالذاكرة تعود إلى طفولتهم، إلى ذلك المدرس الذي كان يطلب منا حفظ هذه القصيدة أو ذلك المقطع، ففي مراحل متقدمة من العمر هناك صعوبة بالغة في تذكر شيء فرغنا للتو من قراءته، المشكلة لا تعود إلى الحفظ، بل هو أمر مطلوب، وخاصة في زمن تتراجع فيه حاجتنا إلى الذاكرة فكل شيء متاح وعبر «كبسة زر»، المشكلة تعود إلى أكثر من زاوية أخرى.
المشكلة أيضاً لا تعود كما نسمع دائماً إلى تدريس نصوص قديمة لطالب يتحول واقعه كل لحظة، فإذا توقفنا أمام هذا المعيار فمن الأفضل ألا ندرس الأدب من الأساس، فالشعر منذ الجاهلية وحتى قصيدة النثر لا يناسب طالب هذا الزمن. وليس معنى هذا تحجر مناهج الأدب وتركيزها حتى الآن على تلقين الأطفال واليافعين نصوصاً غارقة في القدم، لا تصلح إلا للمنهج الجامعي، أو للباحث في تاريخ الأدب.
عندما يُدرس الأدب مثل الرياضيات، هنا تكون الأزمة، في الرياضيات: 1+1=2، هي نتيجة حتمية، ولا مفر منها، وترتبط بالواقع الحسي المباشر، وحين تُدرس القصيدة أو النص النثري، بوصفه فضاءً محدد القواعد حيث لا يتم تلقين النص وحسب، ولكن تُلقن مواطن الجمال فيه، بما تتضمنه من صور واستعارات وكنايات، مع إفقاد الطالب حس التأويل أو الخروج بأي ملمح جمالي مختلف عن المقرر، في هذه الحالة يتحول الأدب بما له من زخم وقدرة على إكسابنا الفردية إلى ما يشبه الرياضيات، فلا رأي خاصاً مستقل، فكلنا نقرأ المتنبي أو الفرزدق أو جرير وفق المفروض علينا سلفاً، وكأنها حقائق علمية مما يفقد الأدب أهم خصائصه، والمتمثلة في التنوع والتذوق ووجهة النظر المستقلة.
الأدب ليس رياضيات، فالنص لا بد أن يلامس جزءاً خفياً في أعماق كل فرد منا، ومهمة المنهج التعليمي تفعيل هذا الجزء، للوصول إلى خلق حالة إبداعية عند قلة من الطلاب، وتحبيب الأدب لدى فئة أوسع منهم.
عندما يُدرس الأدباء من خلال رؤى تفخيمية، هنا أيضاً أزمة، فالأدب في الأساس يعبر عن لحظات تقلب وضعف إنساني ترتبط بحكايات إمتاعية يعرفها الشغوف بالأدب لاحقاً، ولكنه خلال مراحل التعليم الأولى لا يجد نفسه إلا أمام نصوص أنتجها الفراغ، فهذا الشاعر تحدث، ومن دون سبب، عن خيانة حبيبته له، فمن النادر أن تجد في منهج الأدب نصاً خلاباً حول شخصية أحد الأدباء، هنا يصبح الأدب أشبه ما يكون مرة أخرى بالرياضيات، ولكنها رياضيات باردة لا ترتبط بالحياة.
عندما يدرس الأدب معزولاً عن بيئته ومناخه والجغرافيا التي دارت وقائع النص فيها، والصراعات التاريخية التي أفرزته، أي عندما تنزع منه ظروفه شديدة الخصوصية، وهي التي في الحقيقة تمنحه قبلة الحياة، يتحول إلى ما يشبه العلم، ولكنه بخلافه لا يصلح لكل زمان ومكان.

(3)

على المسؤولين عن مناهج التعليم في بلداننا العربية التوقف لحظة، وبصدق، للإجابة عن سؤال: ما هي أهمية الأدب؟، بعيداً عن الكلام الإنشائي والمكرر والممل الذي نعرفه جيداً.
الأدب ضرورة للوصول إلى معدلات مرتفعة من القراءة، والتي لا يبدأ الشغف بها إلا من الأدب.
الأدب ضرورة لمجتمعات يضرب فيها التطرف، ففي تسعينيات القرن الماضي عندما اشتدت وتيرة الإرهاب في مصر والجزائر أشارت أكثر من دراسة ميدانية إلى أن معظم أعضاء الجماعات المتشددة تخرجوا في تخصصات علمية.
الأدب ضرورة للجميع حتى لأولئك الذين يدرسون الفيزياء والكيمياء، ربما لا تكون هناك ضرورة له في سوق العمل، ولا يلتفت إليه الأهل، ويقدم من خلال منهج ممل وكئيب، ومن المهم أن نفك هذا الحصار الثلاثي الأبعاد، ووالوصول به إلى التأثير في ذائقة الطالب، وهي الخطوة التي تحتاج إلى فتح نقاش واسع ينخرط فيه الجميع بوعي ومسؤولية.


خصوصية


كتب الكثيرون عن أزمة تعليم الأدب في الغرب، ولكنها في حالتنا العربية أزمة شديدة الخصوصية، نظراً لما نمر به من تحولات مجتمعية وتاريخية، يلعب الأدب والعلوم الإنسانية فيها دوراً لافتاً في حماية العقل من تخريب البعض.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"