رسائل بيونج يانج ضد «بروفة الغزو»

02:13 صباحا
قراءة 5 دقائق

د. أحمد قنديل

على الرغم من إجراء كوريا الشمالية، مؤخراً، خمس تجارب صاروخية قصيرة المدى في أقل من ثلاثة أسابيع، فإن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هوّن من تأثير هذه التجارب على إمكانية استئناف المفاوضات النووية المتعثرة بين واشنطن وبيونج يانج؛ بل ورجح الرئيس ترامب، يوم السبت الماضي، إمكانية عقد قمة أمريكية رابعة مع كوريا الشمالية، مشيراً إلى أنه تلقى خطاباً «جميلاً للغاية» من الزعيم الكوري الشمالي كيم يونج أون. إلا أن ترامب تجاهل الإشارة إلى موعد عقد هذه القمة أو مكانها المحتمل، مكتفياً بالإشارة إلى أن الزعيم الكوري الشمالي أبدى «قلقاً» في الرسالة المذكورة من المناورات العسكرية المشتركة بين الجيشين الأمريكي والكوري الجنوبي.
يبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي تفاخر مراراً بتجميد بيونج يانج لتجاربها النووية والصاروخية؛ باعتباره دليلاً على نجاح مفاوضاته مع الزعيم الكوري الشمالي، لا يزال متفائلاً بإمكانية تخلي بيونج يانج عن كافة أسلحتها النووية وبشكل نهائي ولا رجعة فيه، على الرغم من تحذيراتها المتكررة من احتمالات عدم إنهاء تجميدها لتجارب الصواريخ النووية بعيدة المدى (التي تستطيع حمل رؤوس نووية وقادرة على الوصول إلى الأراضي الأمريكية) في حال استمرار المناورات العسكرية المشتركة بين واشنطن وسيؤول، وحال استمرار مبيعات الأسلحة الأمريكية المتقدمة إلى كوريا الجنوبية، والتي كان آخرها مقاتلات الشبح «إف - 35».
الرئيس الأمريكي، الذي التقى كيم ثلاث مرات منذ العام الماضي في محاولات مكثفة؛ لحل الأزمة المتعلقة ببرامج كوريا الشمالية النووية والصاروخية، قلل من أهمية التجارب الصاروخية الأخيرة التي أجرتها بيونج يانج، قائلاً: إنه لا يشعر بالقلق تجاهها، ووصفها بأنها «صواريخ قصيرة المدى» و«عادية جداً». وأشار ترامب إلى أن هذه التجارب لم تخرق أي اتفاق مع الرئيس كيم، وأنه متأكد من أن الزعيم الكوري الشمالي لا يريد أن «يخيب ظنه»، في إشارة إلى تعهد الرئيس كيم بعدم إجراء أية تجارب نووية أو صاروخية بعيدة المدى منذ عام 2017.
تأكيد الرئيس ترامب على عدم وجود «مشكلة» مع التجارب الصاروخية الأخيرة لبيونج يانج يتسق مع تصريحاته السابقة التي تؤكد أن الجهود الدبلوماسية مع كوريا الشمالية لا تزال على المسار الصحيح؛ بفضل علاقته الشخصية مع الرئيس كيم يونج أون، إلا أنها تتنافى مع وجود فجوة هائلة بين الجانبين، في ضوء إصرار واشنطن على تخلي بيونج يانج عن الترسانة النووية أولاً، وإصرار كوريا الشمالية على رفع العقوبات الأمريكية أولاً.
ويمكن تفسير موقف ترامب المهادن تجاه تجارب بيونج يانج الصاروخية قصيرة المدى بعدد من الأمور المهمة. فمن ناحية، يرى عدد من الخبراء أن الرئيس الأمريكي يحاول «ابتزاز» قادة كوريا الجنوبية؛ للموافقة على مطالبه الخاصة بضرورة زيادة المساهمة المالية للحلفاء (في سيؤول وطوكيو) في كلفة القوات الأمريكية المنتشرة في منطقة شرقي آسيا. وكان ترامب، الذي أرسل وزير دفاعه الجديد مارك إسبير إلى سيؤول، منذ أيام؛ لبحث مشاركة عبء تكاليف الدفاع بين البلدين، قد طالب كوريا الجنوبية مراراً بدفع المزيد من الأموال إلى الولايات المتحدة؛ نظير الخدمات العسكرية التي تقدمها واشنطن، دفاعاً عنها أمام تهديدات كوريا الشمالية. فالرئيس الأمريكي يرى أن بلاده لم تحصل، على مدار العقود العديدة الماضية، إلا على القليل جداً من كوريا الجنوبية؛ على الرغم من كونها دولة «غنية للغاية»، وعلى الرغم من انتشار أكثر من 28 ألف جندي أمريكي فيها في ضوء التحالف الأمني بين الدولتين منذ الحرب الكورية (1950 - 1953) التي انتهت بهدنة، وليس بمعاهدة سلام مع كوريا الشمالية. وفي هذا السياق، وجد ترامب تجارب الصواريخ قصيرة المدى من قبل كوريا الشمالية مؤخراً فرصة؛ لزيادة الضغط على سيؤول، لدفع المزيد من الأموال إلى واشنطن. وأعلن الكوريون الجنوبيون منذ في فبراير/‏شباط الماضي، أنهم وافقوا على زيادة الدفعات المالية؛ لإبقاء القوات الأمريكية على أراضيهم من 850 مليون دولار إلى 924 مليون دولار في عام 2019، أي بزيادة نسبتها 8.2 في المئة عما كانت تدفعه بموجب اتفاق سابق مدته خمس سنوات انتهى نهاية العام الماضي.
ومن ناحية ثانية، يرى عدد من المحللين أن تقليل الرئيس ترامب من خطورة التجارب الصاروخية الأخيرة لكوريا الشمالية؛ يهدف إلى دق «إسفين» في العلاقات «التصالحية» المتنامية بين سيؤول وبيونج يانج. فالموقف الأمريكي المهادن من شأنه السماح لكوريا الشمالية بإجراء المزيد من التجارب الصاروخية؛ من أجل زيادة قوتها التفاوضية مع كوريا الجنوبية. ومن شأن ذلك، دون شك، عرقلة التقارب بين الشمال والجنوب، والذي من شأنه أن يؤدي إلى نتائج غير مطلوبة من وجهة نظر المصالح الأمريكية في المنطقة، وفي مقدمتها الإبقاء على القوات الأمريكية في شبه الجزيرة الكورية، والتي يعد التخلص منها في مقدمة مطالب كوريا الشمالية. وفي هذا السياق، تستند الحسابات الأمريكية إلى أن تدهور العلاقات بين سيؤول وبيونج يانج سوف يزيد من حاجة الكوريين الجنوبيين للمظلة الأمنية الأمريكية، وبالتالي الموافقة على أية مطالب تريدها واشنطن؛ من أجل استمرار تواجد القوات الأمريكية في كوريا الجنوبية. وفي نفس الوقت، يريد الرئيس ترامب أن تكون الكلمة النهائية في شبه الجزيرة الكورية في يد واشنطن، وليس في يد الكوريتين. فالرئيس الأمريكي يرغب في استمرار «استراتيجية ممارسة أقصى الضغوط» على كوريا الشمالية، بما في ذلك استمرار العقوبات المفروضة من مجلس الأمن الدولي، والمدعومة من جانب واشنطن، حتى تتخلى عن كافة برامجها النووية والصاروخية (وهو توجه يتناقض مع توجه الرئيس الكوري الجنوبي مون جاي - ان، والذي ينادي بالتقارب مع بيونج يانج كحافز لتخليها عن برامجها النووية والصاروخية، وبالتالي تحقيق السلام والاستقرار في شبه الجزيرة الكورية).
على أية حال، يمكن القول: إن الموقف الحالي للرئيس الأمريكي تجاه التجارب الصاروخية قصيرة المدى لكوريا الشمالية، يضعف الأمل في إمكانية تحقيق الأمن والاستقرار في شبه الجزيرة الكورية في المدى المنظور؛ إذ إنه يعرقل أية جهود للتقارب والمصالحة بين الكوريتين، ويصب الزيت على «نار» عدم الثقة بين سيؤول وبيونج يانج. كما أن هذا الموقف أيضاً من شأنه زيادة إحباط الكوريين الشماليين تجاه إمكانية نجاح المفاوضات مع واشنطن، خاصة مع استمرار المبيعات الأمريكية من الأسلحة الحديثة إلى كوريا الجنوبية، ومع استئناف واشنطن لمناوراتها العسكرية المشتركة مع سيؤول، والتي تنظر إليها بيونج يانج باعتبارها «بروفة غزو»؛ من أجل إطاحة النظام الحاكم في كوريا الشمالية. وكل ذلك قد يكون له ارتدادات عكسية خطرة على الرئيس الأمريكي، لعل من أبرزها إمكانية قيام بيونج يانج بالتصعيد العسكري ضد واشنطن، في صورة إجراء تجربة لصاروخ باليستي طويل المدى يستطيع حمل رأس نووي وقادر على الوصول إلى الأراضي الأمريكية، قبل الانتخابات الرئاسية القادمة في 2020. وهو أمر إذا ما حدث سوف تكون له، على الأرجح، آثاره السلبية على فرص إعادة انتخاب ترامب لفترة رئاسية ثانية.

رئيس برنامج دراسات الطاقة وخبير العلاقات الدولية
مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"