محمد قنديل: العرب لا يقدمون فكراً جديداً للإنسانية

يرى أن العودة إلى الجذور تشبث بالواقع
01:49 صباحا
قراءة 9 دقائق

عندما تجلس إلى الروائي المصري محمد المنسي قنديل، ستجده شخصاً تعب من الغربة التي طالت قليلا إلا أنه لم ينس أن يحمل هموم مصر والمصريين معه في تجواله خلال بلدان العالم المختلفة، فهو ينتقد بشدة مقولات رسخت في الوجدان طويلاً كمصر أم الدنيا وغيرها، ليس داعياً لهدم ما قام ببنائه الأجداد، ولكن كي نصحو من غيبوبتنا ونحجز لنا مكاناً تحت الشمس، وأيضاً لنستعيد هويتنا التي أوشكنا على أن نفقدها، لذلك ستجد روايته الأخيرة يوم غائم في البر الغربي صادمة وحزينة للغاية كمعظم أعماله التي تؤرقه فيها فكرة الهوية من قمر على سمرقند وعشاء برفقة عائشة وانكسار الروح، إلى من قتل مريم الصافي . فاز قنديل وهو لا يزال طالباً في عام 1970 بالجائزة الأولى في نادي القصة عن قصة أغنية المشرحة الخالية ونشرت هذه القصة في العديد من الدوريات قبل أن يضمها في كتابه من قتل مريم الصافي الذي فاز بجائزة الدولة التشجيعية في عام ،1988 كما فاز وهو طالب أيضا بجائزة الثقافة الجماهيرية عن قصة سعفان مات التي تحكي مأساة عمال التراحيل، ووصلت روايته الأخيرة يوم غائم في البر الغربي للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2010 .

في معظم أعمالك نجد أن فكرة الهوية تؤرقك دائما، وقد ظهر ذلك بوضوح في يوم غائم في البر الغربي، لماذا؟

عندما بدأت كتابة رواية يوم غائم في البر الغربي أردت رصد اكتشاف مقبرة توت عنخ أمون لأنه مهم جدًا لسببين، أولهما أنه عرف العالم بمصر وأن حضارتها لها طابع ورمز وشكل معين، وثانيهما أنه عرف المصريين بأنفسهم وهويتهم، فقبل هذه الفترة كان المصريون مجرد أرقام هائمة، بمعنى أن يقال مات 100 ألف شخص في حفر قناة السويس، أو خمسون ألف شخص في وباء الكوليرا الذي اجتاح القطر المصري، من دون أسماء أو هويات أو ملامح، وبعد هذا العصر بدأ المصريون يعون أنهم أشخاص لهم أسماء ومصائر تتحدد عبر العديد من التجارب القاسية التي مروا بها، وظهر ما يسميه الرافعي بالوطنية أو الهوية المصرية، وللأسف هذه الفترة كانت قصيرة جداً حيث عدنا من بعدها نموت بالآلاف مرة أخرى، سواء في حوادث غرق العبارات أو تحت وطأة الصخور، والحرائق، وكل الكوارث التي نعاني منها الآن، وبرأيي أن مأساة المصريين هي افتقادهم للهوية لأن حكامنا يصرون على التعامل معنا كأرقام وليس كأفراد، وهذه المسألة أرقتني جداً أثناء كتابة الرواية، لأنها عن محطات بناء الهوية، وفي نفس الوقت كان الواقع عكس هذا .

وإلام ترمز شخصية عائشة في البر الغربي؟

أتمنى ألا ترمز إلى شيء، وأن تفهم على المستوى الأبسط والأصغر وأنها شخصية مصرية وأن ينظر إليها كإنسانة من لحم ودم اختارت وأخطأت وحاولت أن تعدل من مصيرها، وكانت تتمتع بقوى شبه خارقة أو روحية مثل العديد من الفلاحات المصريات، حيث لديهن القدرة على مساعدة أزواجهن في الحقل وتدبير أمور البيت وأشياء أخرى كثيرة جداً .

لذلك أعلنت غضبك الشديد عندما أشار بعض النقاد إلى أن عائشة ترمز إلى مصر في الرواية؟

هذا حقيقي لأني أرى أن هذا تسخيف للعمل الفني وتعميم، فأنا أحاول أن أرسم شخصية حية لها ملامح ومصير وقصة حياة وظروف خاصة بها وفي النهاية يتم تحويلها إلى شخصية سطحية ويطلقونها بعموميتها، فمصر هي مصر، وكلنا مواطنون عاديون في ظلها، لذلك أطلب من النقاد أن ينظروا إليها على أنها شخصية فلاحة عادية، ويحاكمونني على أساس تفاصيل حياتها وحسب .

البعض اتهمك بأن الرواية مغرقة في التاريخ، فبماذا ترد عليهم؟

منذ فترة طويلة لم يكن لنا اهتمام بالرواية التاريخية، وكل تركيزنا على الحاضر ليس بمفهوم الديمومة فيه حيث نركز على ظواهره فقط والتي سرعان ما تزول، ولكن في الآونة الأخيرة ظهر اهتمام من بعض الكتاب بالرواية التاريخية كصنع الله إبراهيم والذي كتب روايتين متتاليتين في التاريخ، وأهداف سويف بروايتها خارطة الحب وغيرهما، وذلك نتيجة العودة للبحث عن الجذور والهوية وهو نوع من التشبث بأرض الواقع، فالتاريخ مهم بالنسبة لنا لأننا مهددون بالتهميش وسط كل صيحات العولمة والاقتصاد العالمي، ولأننا لا ننتج أو نبدع أو نقدم للإنسانية فكراً جديداً، وأيضا لمقاومة عوامل التهميش التي تدفعنا دفعاً بفعل العولمة .

أحداث يوم غائم تؤكد أنه كتب لحضارتنا الانهزام في ما أصرت حضارة أخرى وثابرت للوصول إلى هدفها، برأيك لماذا؟

هذا انعكاس للواقع، فالحضارة العربية جزء منها لم تقل كلمتها الأخيرة أبداً بسبب نشأتهما في ظل التسلط والظلم، حيث لا يوجد لدينا تجربة أو نظرية علمية كاملة، لأنه كان يوجد باستمرار نوع من القهر الذي يمارس على المبدع، كما أن حجم الإبداع هنا محدود جدا نتيجة عدم وجود مناخ حرية، فيوسف إدريس له مقولة مشهورة وهي أن حجم الحرية المتاحة في كل العالم العربي لا تكفي كاتباً واحداً، وكل تجاربنا مجهضة ومبتسرة، وكمثال فكرة السد العالي أول من قال بها هو ابن الهيثم، وعندما أخبر الحاكم بأمر الله بها سجنه ونفاه ومات فقيراً يكتب الشكاوى على باب الأزهر، لهذه الأسباب حضارتنا سريعة الانهزام، بينما تجارب الحضارات الأخرى تصل إلى نتيجة لأنهم يسيرون وفق خطوات البحث العلمي، الذي يتيح تجربة كل الاحتمالات من دون خوف أو قمع أو قسوة .

مصائر متعددة

لاحظنا أن الذئاب موجودة طوال أحداث الرواية وبأشكال مختلفة فتارة تكون حارسة وأخرى منتقمة، إلام ترمز هذه الذئاب؟

ترمز بشكل أو بآخر إلى المصير الإنساني، فالذئاب في الميثولوجيا المصرية كما ذكرت في الرواية على لسان عبدالرسول هي حارسة لأبواب السلطة والمجهول الذي نتعرض له كل يوم، ففي فترة من الفترات كانت حارسة لعائشة ثم انقلبت عليها وأصبحت عدوها عندما كشفت سر الوادي لكارتر، وهي في الرواية لها بعد رمزي وروحي لأن الرواية بها عوالم متعددة ومختلفة، كعالم عائشة وهوارد كارتر، والعالم القديم الذي يمثله إخناتون ثم توت عنخ آمون، فكان يجب أن يكون هناك رابط بينهم خاصة أن هذا الرابط موجود في روح الأسطورة المصرية .

وماذا عن الشخصيات الثانوية في الرواية والتي كانت تحمل بداخلها متناقضات عدة؟

الشخصيات الثانوية في الرواية هي شيء جيد للكاتب لأنها تظهر لديه كومضات، ورغماً عنه تجد أن هذه الشخصيات فرضت وجودها وأخذت حيزا من عمله حيث تتخلق بشكل طبيعي، كمارجريت الراهبة ونبوية المستحية وعبدالرسول، وبشكل أو آخر محمود مختار وهو بطل من الأبطال لكنه لم يفرض نفسه بقوة ليقول كلمته الأخيرة، وأعترف أنه أحد أخطاء الرواية الفنية لأن شخصاً بقامة مختار وعظمته كان يجب أن تفرد له صفحات أكثر من ذلك .

ولماذا جاءت النهاية بضياع عائشة ووصول كارتر إلى هدفه؟

هذا انعكاس للواقع ولكوننا حضارة مغلوبة ونعيش في ظل حضارة غالبة تحقق أهدافها دائما على حساب وجودنا، ففي الماضي كان بيننا وبين العالم فجوة صغيرة، وكان من المفترض بعد قيام ثورة يوليو أن نقوم بردم هذه الفجوة ونتخطاها لنصبح معهم في نفس خندق التطور والتقدم، ولكن ما حدث أن هذه الفجوة أخذت في الاتساع أكثر بيننا والعالم المتطور بحيث أصبحنا مهزومين حتى قبل دخولنا المعركة، وبالتالي تحولت الثورات التي قمنا بها والتي كنا نعتقد أنها ستنقلنا إلى مصاف الدول العظمى ولعصر جديد من التقدم والتصنيع السريع إلى وبال علينا، لذلك فإن تشاؤمي في محله لأننا حضارة هزمت نفسها بنفسها وأدخلنا عوامل وبذرة الفساد بداخلنا عندما قمنا بكل هذه التغييرات .

ولكن وسط كل هذا التشاؤم ألا يوجد شعاع من أمل؟

هناك أمل في الجيل الجديد فبعد صمت طويل جداً بدأ الشعب المصري يحتج ويعترض ويخرج في المظاهرات، فبعد أن كانت هذه المظاهرات صغيرة ومحدودة وفئوية ولها مطالب بسيطة إلا أنها في الآونة الأخيرة بدأت تأخذ بعداً أعمق وتتجسد حول قضايا أكبر، وأعتقد أن هذا هو بصيص الأمل الذي تنتظره مصر والذي سيخرج منه شيء .

وهل ترى أنك أحق من الروائي السعودي عبده خال بجائزة البوكر العربية وأن نتيجتها لم تكن عادلة؟

هذه مسابقة ويجب أن يفوز شخص ما بينما يخسر الآخر، وعندما تتساوى النصوص في قوتها تتدخل عوامل أخرى غير قوة النص، والروايات التي وصلت للتصفيات ثلاث: رواية عبده خال، وروايتي، ورواية ربيع جابر من لبنان، وحدثت مناقشات عديدة إلى أن أخذ عبده خال الجائزة الأولى، وربما يكون السبب أن مصر أخذت الجائزة مرتين متتاليتين قبل ذلك، وهذا منطقي، لذلك أرادوا توسيع مجال الجائزة حتى لا تبقى حكراً على المصريين والذي من الممكن أن يعمل على وأد الجائزة وهي مازالت وليدة .

وصفت نفسك بأنك كاتب مقل وكسول إلى حد مزعج، لماذا؟

لأن الفترة ما بين عمل وآخر طويلة جداً، ولأن الرواية تأخذ وقتاً طويلاً، كي تكتمل أركانها بداخل عقلي، وربما لأنني كنت كاتباً مشتتاً أكتب أحياناً للأطفال وللسينما، أكتب في التاريخ والمقالات، وأخشى أن تكون السنوات المتبقية قليلة لأنجز فيها مشروعي الروائي .

هل ترى أن سنوات الغربة كانت السبب الرئيسي في ذلك؟

إلى حد كبير، فالسفر والاغتراب يجعلك تتخفف من وطأة التفاصيل اليومية التي تثيرك وتستفزك وتحفزك باستمرار على الكتابة، فيصبح إيقاعك أبطأ وأيضا تبتعد عن دائرة الإبداع، ورغم ذلك اكتسبت خبرة واسعة بالعالم من خلال رحلاتي إلى العديد من الدول ولكن للأسف لم يتم ترجمة كل هذا على الورق .

قلت إن المصريين قبل القرن التاسع عشر كانوا مجرد أرقام مهملة، وبعد مرور كل هذه الأعوام هل مازالوا مجرد أرقام؟

نعم تحولنا مرة أخرى إلى مجرد أرقام، فعندما تغرق عبّارة وعلى متنها ألف شخص، أو قطار يحترق ويموت به المئات، وصخرة تقع فتحصد العشرات من الأرواح، ومن استطاع النجاة من كل هذا يموت بالتيفود نتيجة لتلوث الماء واختلاطها بمياه الصرف الصحي، فهذا يدل على أننا مجرد أرقام، ومصائرنا لا تهم حكامنا لأنهم لا يروننا بوضوح لذلك يختزلوننا في رقم .

مخاطر

البعض يرى أن التراث العربي لا قيمة له ولا يستطيع مواكبة تطورات العصر، ما رأيك؟

التراث العربي عبارة عن مادة خام خاضعة للفحص والدراسة، بحيث نأخذ منه ما يفيدنا في حياتنا ونترك الباقي، ولكن ويجب ألا نتمسك به كنصوص جامدة، فالتراث هو الذي سيدعم حضورنا المهدد بالغياب لذلك يجب أن يكون عدتنا لمواجهة المستقبل وليس حملاً ثقيلاً نحمله وتنوء به ظهورنا .

وكيف يمكن كتابته برؤية معاصر كما ذكرت؟

لا أعرف كيف، ولكني أفعل هذا فأنا لدي ثلاثة كتب عن قصص من التاريخ كتبتها من منظور معاصر، وأردت القول إن هذه ليست أحدثاً ماضية ولكن الزمن يعيد نفسه ربما بشكل هزلي، فالخليفة الذي كان طاغية نرى الآن منه نسخاً كاريكاتورية مع فرق واحد أننا نطلق عليه رئيس جمهورية، وأحياناً تصبح العديد من الأشياء في وقتنا الحاضر غامضة ولا نستطيع تفسيرها لذا من الممكن أن ينير التاريخ واقعنا المعاصر لأننا عندما نكون وسط دوامة الأحداث لا تكون الرؤية واضحة بالنسبة لنا .

رواية قمر على سمرقند جاءت بعد رحلات صحافية كثيرة تطلبها عملك في مجلة العربي الكويتية . فكيف تنظر إلى المكان كمؤثر في الكاتب؟

الأدب الجيد هو جغرافيا جيدة لأنك لو حددت المكان وأجدت وصفه والإلمام به ستعرف بالتالي طبيعة البشر الذين يعيشون بداخله، والريف المصري كمكان يؤثر في سكانه، والليل الذي كنا نسميه معلم القرى، يطبق عليهم ويحاصر فكرهم، وأيضا نرى كيف تحاصر غوغائية الزحام في المدينة كل فكر وإبداع لتحصره في حيز ضيق، عندما عملت بمجلة العربي خرجت إلى العالم الواسع واكتشفت أننا كنا نعيش في وهم كبير، وهو أن مصر أم الدنيا، بها كل الحضارات والثقافات والآراء، وأن العالم كبير وممتد وشاسع ومملوء بأفكار وحضارات مختلفة، وأننا كعرب نعيش على هامشه ويجب علينا بذل جهد أكبر ليكون لنا مكان تحت الشمس، وأخشى أننا كل يوم يمر علينا من دون أن نفعل شيئاً نفقد جزءاً من هذا المكان .

وكيف تنظر إلى الاعتداء الذي تم على الرواية من قبل دار الهلال بحذف ثلثها تقريبا؟

بعض الموظفين يسيئون إلى منصبهم والمكان الذي يعملون به، ودار الهلال قيمة كبيرة في الثقافة المصرية وكلنا تعلمنا وتثقفنا من خلال رواياتها وكتبها، وفي فترة من الفترات كان هناك اتساع للأفق ومساحة للحوار والرؤى المتعددة، ولكن للأسف مع التغيرات الصحافية التي تحدث يأتي أناس أفقهم ضيق ومغلق، يخافون حتى من ظلهم ولا يعلمون أننا أصبحنا في عصر الأفكار المتصارعة التي تكشف كل شيء، وأحد هؤلاء بدار الهلال قام بحذف ثلث الرواية لأنه خشي من محظورات سياسية كالحديث عن سيد قطب والذي حذفه بأكمله، وعندما أرادت الجامعة الأمريكية أن تترجم الرواية طلبت منهم ألا يترجموا النسخة المشوهة لأنها ستسيء إليّ، لذلك تم تأجيل الترجمة لمدة عام كامل إلى أن قامت دار ميريت بإعادة طباعتها كاملة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"