عادي
400 إلى 500 ضحية لموجة 1911

الطاعون يهاجم المنطقة في ظل صعوبة الاتصال

04:50 صباحا
قراءة 9 دقائق

هاجم الطاعون مدن الخليج في فترات مختلفة خلال النصف الأول من القرن العشرين، وتعكس التقارير البريطانية والروايات التي كتبها الأطباء المعالجون والرحالة وغيرهم حجم المأساة . ولعبت عوامل عدة في تمكن الوباء من الفتك بأعداد كبيرة من الناس بسبب قلة الرعاية الصحية وجهل الناس بالمرض وعدم تطبيق اجراءات ولو بحد أدنى من الموانئ التي يتنقل بها المسافرون من مكان إلى آخر ويتنقل معهم المرض من مدينة إلى أخرى . والغريب في الأمر أن هذا الوباء يهاجم فجأة ويختفي فجأة، ويتحرك في أكثر من منطقة بالوقت نفسه أو في أوقات متقاربة . نتابع في هذه الحلقة صولات وجولات هذا الوباء ونرى ما فعل في مدن الخليج في أوائل القرن العشرين .

كتب الوكيل السياسي البريطاني الشهير بيرسي كوكس تقريراً عن الطاعون عام ،1911 وكان يقيم في تلك الفترة في مسقط، وتضمن تقريره تفاصيل مثيرة لمهاجمة الطاعون مدن الإمارات في تلك الفترة، يقول كوكس في ربيع وصيف عام ،1911 اجتاح مرض الطاعون ساحل عمان (وهذا هو الاسم القديم للإمارات)، مما أودى بحياة ما بين 400 - 500 شخص، وظل المرض منتشراً لبعض الوقت بسبب صعوبة المواصلات ووسائل الاتصال، وهذا بدوره أدى إلى تأخر المكاتبات، إضافة إلى جهل الناس بهذا المرض وطرق الوقاية منه . ويكمل كوكس تقريره قائلاً عزا سكان الساحل ظهور هذا المرض إلى الاختلاط بين البحارة الهنود والرعايا الآخرين وسكان المنطقة، إضافة إلى وصول بعض المصابين بهذا المرض إلى دبي قادمين من لنجة، وكان وصول اعداد كبيرة من التجار والبحارة بعد توسع التجارة مع دبي سبباً في انتقال جرثومة المرض، وقدر عدد المصابين في دبي بنحو 2000 شخص ونحو 500 شخص في الشارقة، واختفى المرض بالسرعة نفسها التي ظهر بها . ويختم كوكس تقريره بقوله ألقى هذا المرض مسؤولية إضافية على الحكومة البريطانية بتوجيه مزيد من الاهتمام الصحي لسكان الساحل العربي . (1) ويهمنا مناقشة الفقرة الأخيرة من التقرير، فكوكس الذي كان يمثل الحكومة البريطانية، في مسقط ويشرف على ما يبدو على الإدارة البريطانية في الإمارات أيضاً إضافة إلى العاصمة العمانية التي يشرف على الوكالة البريطانية بها يتحدث عن مسؤولية إضافية الحكومة تجاه الإمارات والرعاية الصحية بها، وكأنه كانت توجد أصلاً مسؤولية قبل ذلك، فمن يسمع هذا الكلام سيظن مباشرة أن السلطة البريطانية قامت بتأسيس المستشفيات والمراكز الصحية بطول الإمارات وعرضها وأمدتها بالكوادر الطبية المؤهلة وبالمعدات الحديثة والأدوية وأن هذه التجهيزات كلها لم تؤد الغرض ولم تمنع الوباء من الانتشار، وبالتالي فإن الحكومة البريطانية ترى أن كل ما فعلته ليس كافياً، وستقوم بالمزيد وهذا ما يعني المسؤولية الإضافية . وواقع الأمر الذي يدركه جيداً كوكس وحكومته أن السلطة البريطانية طوال تواجدها في الإمارات الذي بدأ من أوائل القرن التاسع عشر، لم تشيد مستوصفاً واحداً، ولم تبعث طبيباً أو حتى ممرضاً ولم يشرح لنا كوكس ما هي الرعاية الصحية التي قامت بها حكومته حتى تصبح لديها مسؤولية إضافية . وفيما عدا الأطباء الأمريكيين الذين قدموا للإمارات وغيرها من مدن الخليج في أوائل القرن العشرين وهؤلاء أصلاً قدموا من أجل مهمة أخرى وهي التبشير، لم يدخل طبيب بريطاني واحد طوال النصف الأول من القرن العشرين، رغم ما رآه كوكس من مآس تركتها الأوبئة في المنطقة . وعندما انتشرت الكوليرا في عمان وحصدت الآلاف، كان كوكس شاهد عيان على ذلك، ورأى أيضاً ما فعله الطاعون وغيره، ومع ذلك يتحدث عن مسؤولية إضافية تتحملها حكومته تجاه الوضع الصحي في المنطقة . والغريب في الأمر أن كوكس لا يكتب تاريخاً بحيث يمكننا أن نقول إنه يضلل القارئ، ويدافع عن حكومته، وإنما يرسل تقارير إلى حكومته المقصرة ويمتدحها وكلاهما يعرف أنه لا توجد أي رعاية صحية لهؤلاء السكان المغلوبين على أمرهم الذين يتساقطون ضحايا للأوبئة المتعاقبة عليهم . ويفترض أن السلطة البريطانية التي تشرف على المنطقة وبعدما رأت ما فعلته تلك الأوبئة، تقوم على الأقل، ولو أن تلك ستكون إجراءات متأخرة، بإنشاء مركز رعاية صحية أو مركز للحجر الصحي مادام الوباء مازال يتجول في المنطقة، إلا أن أي شيء من ذلك لم يحدث، وهذا ما يعكسه التقرير الذي كتبه الكولونيل نوكس بعد 3 سنوات من تقرير كوكس، حيث كتب عام 1914 أن الطاعون عاد للهجوم على الإمارات من جديد . (2)

هجوم جديد

في حلقة سابقة، تحدثنا عن مهاجمة الطاعون للبحرين عام ،1903 واختفى سنوات عدة، ولكنه عاد للهجوم مرة أخرى عام ،1911 ومع عودته، عادت الجنائز للظهور مرة أخرى، وانتشر الخوف في كل مكان، في تلك الأيام كان طبيب الإرسالية الأمريكية في البحرين ستانلي ميلري يعمل في مستشفى الإرسالية، ويحدثنا هنا عما رآه في مقال كتبه في مجلة الإرسالية الأمريكية . ويتميز مقال ميلري بأسلوب روائي جميل يعكس ما حدث فعلياً في مدينة البحرين، وردود فعل السكان اثناء مواجهتهم لوباء الطاعون، يقول إن جميع ما حدث في الفترة الأخيرة لاتزال صورته أمامي، فقد كانت نتائج مرض الطاعون موت آلاف البشر، ومن جميع الطبقات والأجناس، فالطاعون الذي سبب فزعاً رهيباً عند انتشاره في أوروبا، وهو الذي قتل المئات في الهند، هذا المرض الفتاك، أصبح معنا في البحرين، ففي كل يوم تتوجه جنائز متلاحقة إلى المقابر، ومع ازدياد عدد الموتى بسبب الطاعون، راحت شعائر ومراسم الجنائز التي تقام للموتى عادة، تقل شيئاً فشيئاً، عاد الموتى لا يدفنون كالسابق، فبدلاً من حملهم إلى المقبرة على نعوش جديدة، وفي كل موكب جليل تكفن فيه الجثة بكفن معقول، أصبحت هذه المراسم أقل بسبب الاعداد الهائلة من الموتى، ومع بداية كل يوم جديد، كان الحزن والموت يمضيان معاً في الطرقات والبيوت فلا توقف ولا رحمة، وأكثر من ذلك، أصبح الناس مع الوقت لا يجدون وقتاً كافياً لحفر قبور الموتى بعمق كاف، وحتى الآن، فإن ما يقارب 500 شخص ماتوا بسبب الطاعون، ومع أن هذا العدد ليس كبيراً نسبياً، إلا أنه ضخم جداً بالنسبة إلى عدد السكان في البحرين، وبسبب هذا الموت الكثير، راح الناس يشعرون بفقدان الأمل، وفي هذه المحنة الشديدة، بدأ المسلمون هنا يبحثون عن مساعدة شخص ما يخلصهم من هذا العذاب، لكنهم لم يجدوا غير الصلاة، وهكذا كنا في كل ليلة، نستيقظ في أوقات مختلفة على أصوات بكاء ودعاء المؤذنين الذين كانوا يرددون الأذان الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، الله أكبر، لا إله إلا الله . وينتشر دعاء ما بعد الأذان من بيت إلى بيت، وما هي إلا دقائق قليلة حتى تنتشر في السماء دعوات الصلاة والتكبير في كل مكان في أوقات أخرى غير مواعيد الصلاة المعروفة، وفي أحيان كثيرة كانت الدعوات لا تخرج من المساجد فقط، بل ومن البيوت أيضاً، فيختلط بعضها ببعض، وفي النهاية، تنخفض الأصوات تدريجياً بهدوء مع الظلام ثم تعود مرة أخرى، ولوقت طويل، تبدو هذه الدعوات وكأنها أصوات صراخ من بشر ينتظرون المساعدة العاجلة، وبعد تلك الليلة التي لم نذق فيها طعم النوم، قابلت أحد الأشخاص في سوق المنامة، وكنت أعرفه لأنه كان أحد مرضاي، وعندما سألته عما فعله الناس في الليلة الماضية، أجابني كنا نصلي وندعو ربنا أن يبعد عنا الطاعون، فقد أصبحت قلوبنا مثقلة بالأحزان، أنا نفسي فقدت بسبب الطاعون أمي وزوجتي وأخي وعمي، وأسرتي بكاملها تقريباً، وعندما سألته عن الصلوات الكثيرة التي اقيمت في الليلة الماضية قال لي ماذا تريدنا أن نفعل؟ آه، إن قلوبنا ذهبت مع هؤلاء الموتى المساكين . وفي الواقع أن القليل من هؤلاء الضحايا ذهبوا إلى الأطباء الذين كانوا لا يستطيعون القيام بشيء مؤثر تجاه الطاعون، ورأيت بنفسي موت سبعين حالة تقريباً كان من بينهم شيوخ من العرب وتجار يهود وفرس وتجار لؤلؤ هنود، علاوة على حرفيين وحمالين، وكلهم دفعوا ضريبة الطاعون الذي لم يفرق بين الناس اطلاقاً، وعلى الرغم من كل هؤلاء الضحايا، إلا أن أياً من المسيحيين الموجودين في البحرين لم يصب بهذا المرض حتى الآن، ولعل هذا يرجع بالدرجة الأولى إلى أن معظمهم قد أخذوا لقاحات ضد المرض قبل فترة (3) . وغاب الوباء عن البحرين سنوات عدة ليعاود الظهور مرة أخرى عام ،1924 وفي احد التقارير البريطانية عن الوباء، يقول الكاتب إن الطاعون في ذلك العام قدم على الأرجح من دبي وانتشر بشدة خلال الأشهر الأولى من عام ،1924 وتذهب التقديرات إلى حدوث ما يزيد على 4 آلاف حالة وفاة بسبب الوباء، وكان المرض يتفشى بين السكان ببطء، وكان من الممكن الحد من شراسة المرض، ولكن السكان رفضوا لأسباب دينية التعاون في تطبيق الإجراءات الضرورية، رغم أن حاكم البحرين كان مستعداً لتوفير مستشفى يفصل بين الجنسين، وتقديم عون مالي للأسر المحجوزة في المستشفى، وقررنا اللجوء إلى التطعيم المضاد للطاعون، ولكن كان من الصعوبة قبول السكان أخذ التطعيم إلى أن وصل انتشار الطاعون إلى معدلات خطيرة، وعندها أصبح التطعيم غير مجد كأداة وقائية، وقمنا بتوزيع 737 جرعة تطعيم في المستشفى، إضافة إلى تطعيم 3141 خارج المستشفى، والفضل في هذه الجهود يعود إلى مساعد الجراح الطبيب هولمز الذي بذل مساعي جادة خلال تلك الفترة . (4)

كانت هناك وسيلتان أساسيتان لانتقال الطاعون، الأولى المسافرون الذين يقدمون عن طريق السفن من مختلف المناطق القريبة من الخليج إما للتجارة أو للزيارة، وتكمن الخطورة في اختلاط المسافرين مع بعضهم على ظهر السفن الضيقة، وهذه فرصة كبيرة لانتقال العدوى بسهولة بينهم . والوسيلة الأخرى كانت الاختلاط بين أعداد كبيرة من الغاصة والبحارة على ظهور سفن الغوص التي تبحر أربعة أشهر في الصيف من كل عام، فالتجمعات البشرية الكبيرة هي المجال الخصب للأوبئة، ولذلك حاولت البحرين التي أصيبت بالداء أكثر من مرة، وباعتبارها سوقاً مهماً للؤلؤ، وتملك اسطولاً كبيراً للغوص أن تتخذ إجراءات وقائية لحماية غاصتها، ففي العام 1924 نفسه اشترت زورقاً فاخراً بني في الكويت حيث يشتهر الكويتيون بصناعة السفن وجرى تجهيز الزورق ليكون مستشفى بحرياً في مغاصات اللؤلؤ لعلاج أي حالات مرضية سواء فيما يخص الطاعون أن أية أمراض أخرى، ولكن المستشفى البحري لم يكن على ما يبدو جاهزاً للابحار في موسم الغوص لصيف عام ،1924 وقام مساعد الجراح الدكتور هولمز بتقديم خدماته، وتفقد في زيارة استمرت 10 أيام ضفاف اللؤلؤ قرب نهاية موسم الغوص، وتمت معالجة أعداد كبيرة من الغاصة، وكان البحارة المصابون بالمرض يقفزون من قواربهم ويسبحون باتجاه المستشفى البحري للحصول على العلاج اللازم، وقامت البحرين أيضاً بافتتاح عيادة مجانية صغيرة في مدينة المحرق لخدمة أبنائها . ويشير التقرير البريطاني حول هذا الموضوع إلى أن الحاكم ينوي إدخال المزيد من التحسينات على هذه العيادة عند حاجتها لها، وفي العام التالي 1925 حققت تلك الخطوات نجاحاً كبيراً، فعيادة المحرق استقبلت 957 مريضاً، وبدأت أعداد كبيرة من المرضى في التردد على العيادة، أما القارب الذي تحول إلى مستشفى بحري، فاستقبل خلال موسم عام 1925 أعداداً كبيرة من الغواصين في مصائد اللؤلؤ، وتلقوا الاسعافات اللازمة، ويشير التقرير البريطاني لعام ،1925 إلى أن البحرين خلت من الطاعون خلال ذلك العام بعد هجومه على المدينة بقوة عام 1924 .

إجراءات صارمة: بعد سنوات طويلة ومريرة ذاقها أبناء منطقة الخليج من انتشار الأوبئة، أصبح هناك نوع من الحذر والترقب وخاصة لوباء الطاعون الذي من الممكن أن يداهم أي مدينة من دون سابق إنذار . حالة الإهمال الواضحة، سواء من السلطات البريطانية أو المحلية أو السكان أنفسهم، كانت تواجه الوباء باستسلام كامل وحين يغادر تنساه وتعتبر أن قدومه لن يتكرر مرة أخرى، رغم أن الاهمال استمر سنوات طويلة مما ساعد في تكبد ضحايا جدد في كل مرة، إلا أن بعض مدن الخليج استفاقت في النهاية وحاولت اتخاذ إجراءات وقائية، ففي عام 1921 ضرب الطاعون مدن البصرة والمحمرة، وعلى أثر ذلك أعلن في الكويت التي ذاقت ويلات الطاعون إصدار أوامر بتطبيق الحجر الصحي وقضت تلك التعليمات بألا يعتلي أحد سطح قارب من أي ميناء إلا بعد تفتيش القارب من قبل المسؤول الطبي عن الحجر الصحي، وعدم احتجاز الركاب القادمين على متن السفن التجارية من أي ميناء قارب بحري مجهز لهذا الغرض، ويظل الركاب في مبنى الجمارك إلى أن يتم السماح لهم بالذهاب من قبل المسؤول الطبي عن الحجر الصحي . وقضت التعليمات أيضاً بأن تمارس القوارب البحرية القادمة من الموانئ الأخرى حجزاً ذاتياً لنفسها على نحو مشابه لما في معنى الحجر الصحي، وألا يسمح لأي قارب مائي بنقل مياه الشرب بحمل المسافرين .

هوامش

1- cox, 1911, The persian Gulf Administration Report, vol .2,p94

2-Knox, Report for the year, The persian Gulf

Administration Report, vol .2,p .5

3- خالد البسام، صدمة الاحتكاك، حكايات الإرسالية الأمريكية في الخليج والجزيرة العربية 1892 - ،1925 دار الساقي، ط،1 ،1998 ص163 .

4- Administration Report of the Polutical Agency, Bahrain for

VIII,p .62 the year 1924, The persian Gulf Administration Report, vol .

5- Ibid

6- Daily, Administration Report of the year 1925,

The persian Gulf Administration Report, vol .8, p .74

7- More, Administration Report of the Kuwait for the year

1912, The persian Gulf Administration Report, vol .8, p65

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"