عادي
اختباء الفئران في السفن أهم الأسباب

الطاعون ضريبة قاتلة للازدهار في البحرين وعُمان

14:15 مساء
قراءة 9 دقائق

في سبتمبر/أيلول ،1665 هاجم وباء الطاعون مدينة لندن، ولم يكن هناك سوى مستشفى واحد للطاعون في العاصمة البريطانية كل مهامه تتلخص في إغلاق أبواب المنازل ورسم الصليب الأحمر عليها، وتعيين حارس يمنع احتكاك الناس مع المشتبه في إصابتهم . وتوقفت الحياة تماماً، وأصبحت لندن بلا مواصلات أو بيع أو شراء، واقفرت الشوارع، وفتك الوباء بأهل المدينة وأباد آلافاً منهم يقدرهم البعض ب30 ألفاً، فيما يذهب آخرون إلى أنهم يتراوحون بين 90 و100 ألف، ولم يتراجع المرض إلى أن شب حريق لندن الكبير عام 1666م .

عاصر شكسبير شاعر إنجلترا الشهير هذا الموت الأسود، والذين يقرأون له، يقرأون عن قناصي الجرذان، وكان كثير من هؤلاء من كبار رجال الدولة المرموقين والفنانين وغيرهم، غير أن هؤلاء القناصين وغيرهم ماتوا . ومما يحكى أن سفينة محملة بالبضائع تركت ميناء لندن فمات كل من فيها ولم يبق من يوجهها، فسارت هائمة في البحر إلى أن وصلت إلى ميناء بيرجن النرويجي حيث صعد المسؤولون هناك على متن السفينة الهائمة يستطلعون الأمر، لكن لم يعودوا، لأنهم ماتوا هم أيضاً بالطاعون، وفي عام 1870 وصل الوباء إلى الصين ومنها رحل إلى هونج كونج وكانتون عام 1894 وانتشر في كل أنحاء الدنيا عام 1898 حتى قيل أنه مات به ما بين 12-13 مليون شخص، وكان الناس في مدينة بومبي ينامون في الشوارع هرباً منه بعد هجوم كبير للفئران في كل أنحاء المدينة . (1)

في هذه الفترة، أي السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، انتشر الطاعون في مدن الخليج، وسبق أن ذكرنا انتشاره في الإمارات والبحرين، ونتابع في هذه الحلقة ما فعله الطاعون في البحرين وسلطنة عمان .

حركة تجارية: لم يستطع أحد معرفة أسباب هجوم الطاعون على مدينة ما فجأة، ثم اختفائه لبعض الوقت، ربما شهوراً أو سنوات، ليعود ويضرب من جديد . ولا شك أن المدن المكتظة بالسكان، التي تمتلك موانئ وأنشطة تجارية وحركة عبور قوية للمسافرين والتجار تكون الأكثر عرضة للإصابة بالوباء . وفي الخليج كان ميناءا البحرين ومسقط هما المرشحين الأقوى لانتقال العدوى سواء من الركاب، أو الفئران التي تختبئ في مخازن السفن أثناء نقل البضائع التي تحمل عادة للسفن بطرق بدائية عن طريق الحمالين، وكانت البحرين بالذات ميناء مهماً لسفن الغوص والسفن التجارية القادمة من كل مكان محملة بجميع أنواع البضائع، ولو أن فأرين ذكر وأنثى صعدوا بطريقة ما إلى إحدى تلك السفن، أو حتى أنثى حامل، فإن الفأر يتوالد ويتكاثر بشكل سريع جداً، ومن الممكن لزوجين من الفئران أن تبلغ ذريتهما خلال عام واحد أكثر من 15 ألف فأر، وهذا ما يفسر العدد الهائل من الفئران في العالم، إذ يوجد 10 فئران مقابل كل شخص في الهند، وفأر واحد مقابل كل شخصين في الولايات المتحدة . (2)

ويشير تقرير الوكالة البريطانية إلى أنه خلال الفترة من 19 إبريل/نيسان إلى 4 يوليو/تموز 1907 وهي فترة بسيطة لا تتعدى الشهرين ونصف الشهر، اجتاح وباء الطاعون جزر البحرين .

وانتشر المرض في كل مدينة تقريباً، بل في كل قرية وحي، وتشير التقديرات إلى أنه أصيب بالمرض 3121 شخصاً ونجم عن هذه الإصابات 1889 حالة وفاة من بينهم 16 شخصاً من الهندوس واثنان من طائفة البهرة ومثلهما من اليهود و200 إيراني وأحد العبيد المهاجرين وكان يقيم في مبنى الوكالة البريطانية، وتعافى من المرض بعض الخدم العاملين لدى الوكيل السياسي البريطاني، إلا أنه حدثت وفيات في أوساط الخدم العاملين لدى الجالية الأوروبية الموجودة في البحرين . وعندما ظهر المرض للمرة الأولى، لم يكن يوجد لدى مستشفى البعثة الأمريكية إلا جرعات محدودة للغاية من المصل المضاد للطاعون استخدمت لتطعيم الأوروبيين وبعض خدمهم، إلا أنه وصل مخزون إضافي من المصل من مستوصف الوكالة . وبلغ إجمالي عدد الأشخاص الذين تم تطعيمهم من قبل الدكتور توماس في مستشفى البعثة ،137 إضافة إلى 155 قام بتطعيمهم مساعد الجراح موناي بمستشفى فيكتوريا ميموريال، وأتاح ذلك لعدد لا بأس به من المتعلمين ووجهاء المجتمع والتجار ممن كان يعرفهم شخصياً الوكيل السياسي، حماية أنفسهم من دون أي خسائر، إضافة إلى اثنين من أبناء أحد رؤساء القبائل، ولو كانت هناك كميات إضافية من الطعم المضاد للطاعون متوفرة وقت بلوغ المرض ذروته لما كانت أعداد الوفيات 70 حالة يومياً،وقد لجأت الطبقات الصغيرة إلى الهرب حتى أنه لم يتبق ولا شخص واحد من فارس في مدينة المنامة خلال الطقس الحار وخريف عام ،1907 في الوقت الذي سارع فيه الشيعة البحرانيين بالفرار إلى القطيف بأعداد هائلة في توقيت واحد، وتعذر معرفة سبب انتشار الوباء على هذا النحو، ولا يمكن توجيه الاتهام إلى أي سفينة بخارية والادعاء بأنها استوردت العدوى من الهند ومع ذلك، هناك مبرر للاعتقاد بأن ميكروب الطاعون ربما يكون توطن في جزر البحرين ذاتها، ولكن ما سيساعد على الاطمئنان باختفاء المرض في المستقبل أن عدد الفئران قليل وهي لا تستطيع البقاء على قيد الحياة بعد تفشي الوباء ويتابع كاتب التقرير قائلاً: سنوات 1904 و1906 و1908 كانت فيها الحالة الصحية للمدينة جيدة، لكن علينا أن نكون مستعدين لعام 1909 حيث هناك حالة قلق متأهب والمرجح عدم قدوم العديد من الهندوس إلى جزر البحرين خلال تلك الفترة . (3) ومما يلفت النظر في هذا التقرير أن الدكتور المكلف بالتطعيم قام بإعطاء اللقاح للطبقة الغنية والبارزة في المجتمع البحريني مثلما يذكر التقرير وممن كان يعرفهم الوكيل السياسي شخصياً مما أتاح لهم حماية أنفسهم من الوباء وبنفس الوقت يشير التقرير إلى هروب الطبقة الفقيرة، ومنها من قدموا من منطقة فارس، ويبدو واضحاً أن التطعيم لم يكن شاملاً كل فئات السكان، وإنما كان هناك تصنيف للناس حسب الطبقة والمستوى المادي والمعرفة أيضاً، وإذا كان هذا الأمر متبعاً في كثير من الدول خاصة العربية في ما يخص الامتيازات والوظائف وغيرها، فهل يصح أن يقوم مسؤول بريطاني مسؤول عن منطقة من المناطق التابعة للحكومة البريطانية بتطبيق هذا المبدأ في فترة انتشار وباء قاتل يقضي على الأخضر واليابس ولا يميز بين فقير وغني ولا صغير وكبير؟ والأغرب من ذلك أنه يكتب لحكومته أنه قام بهذا العمل وأن اللقاح أفاد في حماية هذه الطبقة في حين هرب الفقراء من المدينة . ربما تكون تلك أوامر الحكومة البريطانية وهو يعلمها بتنفيذ تلك الأوامر، علماً بأن العلاج يتم من قبل البعثة الطبية الأمريكية .

مدينتان: ابتليت عمان وهي ميناء كبير في الخليج خلال القرون الماضية، بوباء الطاعون مثلما ابتليت بأوبئة أخرى سبق ذكرها وأهمها الكوليرا، وكانت مسقط ميناء مهماً لاستقبال سفن التجارة القادمة من الهند والصين وشرق آسيا وإيران ومختلف موانئ الخليج حيث يتم تبادل السلع التجارية . ولذلك نجد أن مدينة مسقط كانت مختلفة في بنائها وتعداد سكانها والجنسيات التي تعيش فيها، ويقول الطبيب الأمريكي شارون توماس الذي أقام في مسقط ومطرح عام 1912 وكان ضمن الإرسالية الأمريكية التبشيرية في وصف له للمدينتين يعطينا فكرة واضحة عن النمو التجاري وقوة الاقتصاد التي جلبت جنسيات مختلفة، وأدت إلى وجود ميناء مزدهر كانت تجلب له البضائع من كل مكان، ومع تلك البضائع أتت الأوبئة كما يحدث في كل ميناء مزدهر في تلك الفترة، يقول توماس: عندما نتحدث عن مسقط ومطرح، فيمكن القول إن مسقط هي عاصمة عمان، وبها يسكن السلطان وجميع القناصل الأجانب، بها القنصليات البريطانية والفرنسية والأمريكية، ويوجد بها أيضاً مكاتب البريد والبرقيات، ولكن تجارياً، فإن مطرح أكثر أهمية من مسقط، فجميع القوافل التجارية تبدأ وتنتهي في مطرح، ويكتظ ساحلها بعشرات القوارب العاملة في التجارة والصيد وأهالي مدينة مطرح ينقسمون إلى ثلاث فئات متباينة جداً، وواضحة لأي مقيم أو زائر، وهذه الفئات هي العرب وهم المواطنون من عمان وزنجبار، والبلوش من بلوشستان، ثم الهنود المعروفون ببشرتهم السمراء . (4) هذا الوصف البسيط لمدينتين في عمان يرينا كيف أنها في تلك الفترة كانت مختلفة عن كل مناطق الخليج، ولذلك فإن وبائي الكوليرا والطاعون اللذين ضرباها في تلك الفترة، فتكا بعدد كبير من السكان نظراً لوجود كثير من الأجانب، سواء المقيمين أو البلوش أو الأرقاء الذين كانوا بأعداد كبيرة جداً، ويشير أحد التقارير البريطانية الذي كتبه الكابتن بيرسي كوكس الوكيل السياسي البريطاني في مسقط في 2 يوليو/تموز 1900 إلى هجمتين للكوليرا والطاعون على عمان في أواخر عام 1899 والنصف الأول من عام 1900 . يقول كوكس: ظلت مسقط خالية من الأمراض الوبائية لفترة امتدت فترة طويلة لدرجة جعلت السكان يعتقدون أن المناخ في مسقط أصبح حائط صد في مواجهة الانتشار الخطير للأمراض، ولكن الأحداث التي جرت في العام الماضي 1899 جعلت السكان يفيقون من هذه الأوهام، فقد جرى إعلان الكوليرا مرضاً وبائياً بعد أن تفشت بصورة خطرة في مطرح أوائل سبتمبر/أيلول، واستمرت في الانتشار في جميع أنحاء عمان إلى أن خفت حدتها في النهاية قرب نهاية يناير/كانون الثاني ،1900 والاعتقاد السائد هو أن أعداد الموتى في مسقط ومطرح جراء هذا الوباء حوالي 600 شخص، وتذهب التقديرات إلى أنه في عمان كلها سقط قرابة 12 ألف شخص ضحية لهذا الوباء، وقام الليفتنانت كولونيل جايكار برفع تقرير مهم عن هذا الموضوع استعرضناه في حلقات سابقة . ويكمل كوكس قائلاً: لما بدأت حدة الكوليرا تخف، ظهر فجأة وباء الطاعون، وتعذر تحديد الكيفية التي تمكنت بها العدوى من الدخول إلى مسقط، ولكن هذا الوباء بدأ بالانتشار من التجمع السكاني لطائفة الخوجة الهندية ممن يعيشون على اتصال واحتكاك مستمر مع مدينة كراتشي، فالأرجح أنه دخل إلى مسقط من هناك، وجرى إعلان مسقط مدينة موبوئة بالطاعون في 10 يناير/كانون الثاني ،1900 ولم يتم إعلان خلوها من هذا المرض إلا يوم 26 مايو/أيار من العام نفسه ويصعب تقديم أي إحصاءات معتمدة عن الموتى ومن جرى علاجهم، ومثلما كان الوضع مع الكوليرا، فإن الطاعون بدأت علاماته تظهر من مدينة مطرح، ثم عندما قارب على الاختفاء من هناك، بدأ بالانتشار في مسقط، والحقيقة أن هناك شكلاً خطيراً من الحمى والانفلونزا انتشر في التوقيت نفسه، وأن جموع السكان أحجموا عن الإبلاغ عن ظهور الأعراض عليهم، بل بذلوا أقصى جهدهم لإخفاء هذه الأعراض خشية تعرضهم لإجراءات غير مريحة تفرضها عليهم السلطات المحلية .

وهذه الأسباب جعلت من الصعب معرفة أعداد المتوفين بدقة جراء الإصابة بالطاعون أو إن كانت هذه الوفيات سببها الإصابة بالانفلونزا والحمى العادية، لكن الاحتمال الأكبر هو أن كثيراً من الوفيات التي أشير لها في التقرير تحت اسم مشتبه فيه هي في الواقع سببها الطاعون، وتعذر التفرقة بين حالات الوفيات وتصنيفها إما بسبب حمى عادية أو جراء الطاعون، وتحولت إلى مهمة مستحيلة في مجتمع كمجتمع مسقط، إلا أن أعمال التطهير والتطعيم مستمرة وبدأب شديد، وقام السلطان ببناء حظائر تابعة للمستشفى في مسقط ومطرح في محاولة لإقناع سكان مسقط باستخدام هذه التسهيلات الطبية، ويبلغ إجمالي من حصل على التطعيم بمصل هافكاين 400 شخص، وقام السلطان بتعيين ممارس طبي قدم من بومباي صاحب خبرة عريضة في الطاعون وعمل بهمة مع أحد مساعديه للحد من انتشار هذا الوباء كما رتب السلطان أيضاً لاستضافة ممرضة حاصلة على تدريب عال لنفس الغرض إلى أن يبدأ الطقس الحار الذي سيؤدي إلى القضاء على الوباء، ويسرني القول إنه على حد علمي، وباستثناء حالة أو اثنتين مشتبه فيهما، فلم يحدث أي انتشار للمرض ولا امتداد للداخل كما حدث مع الكوليرا . (5)

ضربة قوية: عاد الطاعون بقوة إلى عمان في ربيع عام ،1911 وكتب الكابت ماكيفين جراح الوكالة البريطانية في مسقط تقريراً حول هذا الموضوع، جاء فيه أول حالة طاعون ظهرت في مارس/آذار1911 في أوساط بعض الحجاج بمحطة الحجر الصحي ممن كانوا قد وصلوا يوم 27 فبراير/شباط ،1911 في إحدى سفن الحجاج، ولم تظهر أي حالات أثناء حالة استغرقت 10 أيام من جدة، وهذه الحالة كانت غير خطيرة، وفي يوم 15 مارس/آذار 1911 حدثت حالة ثانية في الحجر الصحي وتوفي صاحب هذه الحالة في اليوم التالي، وفي 30 مارس/آذار تم اكتشاف بضعة حالات في سيداب وهي قرية تقع على بعد حوالي نصف ميل من محطة الحجر الصحي، وعلى بعد ميل ونصف الميل من مسقط، وعلى الأرجح ظهر المرض هناك لبضعة أيام، تم عزل سيداب وتوقفت جميع الاتصالات بينها وبين مسقط، وحوالي التوقيت نفسه، أفادت التقارير أن الفئران تموت في مسقط حيث لم يعد يظهر فئران هناك إلا بأعداد قليلة للغاية، وهذه الأعداد لا تبدو عليها علامات الطاعون ومع ذلك حدثت حالة في مسقط يوم 6 إبريل/نيسان وتلاها حالة أخرى يوم 11 إبريل/نيسان وبعدها أصبحت الإصابات بالطاعون متكررة، وظهرت بعض الحالات في مطرح، واستمر الوباء حتى يوم 27 مايو/أيار مع تراجع الحالات كلما ازدادت حالة الطقس ميلاً للحرارة، وإجمالاً بلغت عدد الحالات ،76 مات منهم 67 وكان من الصعوبة بمكان الحصول على معلومات دقيقة لاعتراض السكان على فكرة التبليغ عن الحالات المصابة، ولذلك لم يتم الإبلاغ عن الحالات إلا بعد حدوث الوفاة، ومع ذلك ليس هناك احتمال بحدوث المزيد من الإصابة بالوباء مع المراقبة الصارمة لعدد حالات الوفاة الحاصلة، ومعظم الوفيات بسبب الطاعون، ووجهت النصائح لسكان مسقط لكي يتخذوا الاحتياطات العادية، وتم تعليق المبادئ الرئيسة للوقاية في بعض الأماكن مع ترجمتها للغات المختلفة التي يتحدث بها السكان، وجرى أيضاً تطعيم حوالي 75 شخصاً بمصل

مضاد للطاعون، ولذلك لم تحدث حالات في أوساط من تم تطعيمهم على حسب المعلومات الواردة، إلا أن معظم التطعيم حدث في فترة متأخرة من انتشار الوباء لأنه سادت قناعة بأن الوباء سيزول سريعاً، واستمر الطاعون من 29 إبريل/نيسان إلى 16 يوليو/تموز 1911 وتسبب في وفاة ما لا يقل عن 1895 شخصاً . (6)

هوامش

1- د . حسن فريد أبو غزالة، أمراض لها تاريخ، مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، ط،1 ،1995 ص 51-52

2- المرجع السابق، ص 35

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"