السَّمَاء ذَات الْحُبُكِ

02:40 صباحا
قراءة 4 دقائق

من أسرار البلاغة وفنون العلم التي جاءت في القرآن الكريم، ويجدر بكل مسلم التفكر فيها، والتدبر في معانيها، القَسم في القرآن. والمتتبع لآيات القسم في القرآن الكريم يجد أن الله سبحانه أقسم في بعضها بذاته الموصوفة بصفاته وأقسم بآياته ومخلوقاته وبمظاهر الكون، ويوم القيامة، لتهيئة السامع، وإعداده إعداداً صالحاً لما يأتي بعد القَسم.
يأتي ذكر القسم تأكيداً، لا سيما والقرآن أنزل بلغة العرب، الذين عهدوا على إثبات مطالبهم بالحلف واليمين والقسم، إذ كانوا يقطعون كلامهم بالقسم، بهدف تحقيق الخبر وتوكيده.
قال تعالى: «وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ».
هذا هو القسم الثاني في سورة الذاريات، وورد في الآيات من السابعة حتى التاسعة، وهي السابعة والستون في ترتيب نزول السور، والحادية والخمسون بالمصحف الشريف.
وأصل الحبك في اللغة إجادة النسج، وروى سعيد بن جبير عنه قال: الحبك حسنها واستواؤها، وقال قتادة: ذات الخلق الشديد، وقال مجاهد: متقنة البنيان، وقال أيضاً: ذات الطرائق، ولكنها بعيدة من العباد، فلا يرونها، كحبك الماء إذا ضربته الريح، وكحبك الرمل، وكحبك الشعر.
يقول محمد هشام الشربيني في كتابه «بهذا أقسم الله»: يقسم الله عز وجل ب «السماء ذات الحبك» على أمر «إنكم لفي قول مختلف» لا استقرار له ولا تناسق فيه قائم على التخرصات والظنون، لا على العلم واليقين. يقسم بالسماء المنسقة المحكمة التركيب، كتنسيق الزرد المتشابك المتداخل الحلقات. وقد تكون هذه إحدى هيئات السحب في السماء حين تكون موشاة كالزرد، كتجعد الماء والرمل إذا ضربته الريح، وقد يكون هذا وضعاً دائماً لتركيب الأفلاك ومداراتها المتشابكة المتناسقة. يقسم بالسماء المنسقة المحبوكة على أنهم في قول مختلف، مضطرب لا قوام له ولا قرار، ولا ثبات له ولا استقرار، يصرف عنه من صرف ويبقى عليه من بقي، فلا استقرار عليه ولا توافق ولا ثبات، بل الحيرة دائمة والقلق لا يزال، وكذلك الباطل دائماً أرض مرجرجة مهتزة، وتيه لا معالم فيه ولا نور، وهو يتأرجح ولا يفيء إلى أصل ثابت، ولا ميزان دقيق، ولا يجتمع عليه أهله إلا لينصرفوا ويتفرقوا بعد حين، ويدب الخلاف والشقاق بينهم. ويتضح اضطرابهم واختلافهم وما هم فيه من الأمر المريج حين يعرض في ظل السماء ذات الحبك المنسقة التركيب. ثم يستطرد، فيقرر أنهم يعيشون في أوهام وظنون في أمر الآخرة، لا يستندون فيها إلى حق أو يقين، فهم في قول مختلف في هذا الحق المبين، ثم يصور لهم ذلك اليوم في مشهد حي تتملاه العيون «قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ»، (الذاريات، الآيات 10-14).
والخرص هو الظن والتقدير الجزاف الذي لا يقوم على ميزان دقيق. والله سبحانه يدعو عليهم بالقتل. ودعوة الله عليهم بالقتل قضاء بالقتل! «قتل الخراصون»، ويزيد أمرهم وضوحاً «الذين هم في غمرة ساهون»، فهم مغمورون في الأضاليل والأوهام لا يفيقون ولا يستيقظون، والتعبير يلقي ظلاً خاصاً يصور القوم مغمورين ساهين لا يشعرون بشيء مما حولهم، ولا يتبينون كأنهم سكارى مذهولون! ذلك أنهم لا يتبينون الأمر الواضح، الذي يراه ويوقن به كل واعٍ غير مذهول، فهم «يسألون أيان يوم الدين»، يسألون هكذا لا طلباً للعلم والمعرفة، ولكن استنكاراً أو تكذيباً واستبعاداً لمجيئه يعبر عنه لفظ (أيان) المقصود. ومن ثم يعالجهم بمشهدهم في هذا اليوم الذي يستبعدونه ويستنكرونه، وهم يحرقون بالنار كحرق المعدن لتمييز حقيقته «يوم هم على النار يفتنون»! ومعه التبكيت المؤلم في الموقف العصيب (ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون)، فهذه المعالجة هي الجواب اللائق بهذا التساؤل، وهذا العنف في المشهد هو المقابل للذهول والسهوة التي يعيش فيها الخراصون. وهو مصداق دعوة الله عليهم بالقتل في أشد صوره وأعنفها: يوم هم على النار يفتنون. وعلى الضفة الأخرى، وفي الصفحة المقابلة يرتسم مشهد آخر، لفريق آخر مستيقن لا يخرص: تقي لا يتبجح: مستيقظ يعبد ويستغفر، ولا يقضي العمر في غمرة وذهول، حيث ذكر سبحانه جزاء من خلص من هذه الفتن بالتقوى: «إن الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ». (الآيات15-20).
هذا الفريق، فريق المتقين الأيقاظ الشديدي الحساسية برقابة الله لهم، ورقابتهم هم لأنفسهم. هؤلاء «في جنات وعيون»، «آخذين ما آتاهم ربهم» من فضله وإنعامه، جزاء ما أسلفوا في الحياة الدنيا من عبادة الله كأنهم يرونه، ويقين منهم بأنه يراهم، «إنهم كانوا قبل ذلك محسنين»، ويصور إحسانهم صورة خاشعة حساسة: «كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون».
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"