التّفاوُت في أضرار الوباء

03:23 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

الأضرار والخسائر النّاجمة عن جائحة «كورونا» متفاوتة الحجم والأثرِ بنسبة التّفاوُت الخرافيّ بين ثروات الدّول ومداخيلها وإمكاناتها.

سيكون في باب تحصيل الحاصل القولُ إنّ العالَم جميعَهُ: دُولاً ومجتمعات، تلقّى أقساطه من الضّرر الفادح في مصالحه؛ من جرّاء جائحة وباء «كورونا»، المستمرّةِ عصفاً من غيرِ انقطاع؛ وأنّ طبقاته وفئاته الاجتماعيّة كافّة، لَحِقها منه ما ليس له حصْرٌ من الخسائر الماديّة والمعنويّة والاجتماعيّة الفادحة. على أنّ أقساط الضّرر المُتَلَقّاة تلك أتت متفاوتةً؛ إذ ليس يكفي الإقرار بحصول الضّرر؛ لأنّ الإقرار هذا إذا كان يفيد في باب بيان المشتَرَك العامّ بين الدّول والمجتمعات والشّعوب والطّبقات (الأضرار والخسائر)، فهو - قطعاً - لا يُفيد، كبيرَ إفادة، في تقدير حجومها المتفاوتة بين أضرارٍ قابلةٍ للاحتواء، ولو في مدى متوسّط، وأخرى تتعصّى على أيّ سياسةِ احتواء: كما هي الحال في دولٍ فقيرة إلى الإمكانات.

إنّ صورة تلك الخسائر ومداها لا تَقْبَل التّبيُّن، على التّحقيق، إلاّ متى صِيرَ إلى وضْع خريطةٍ تفصيليّة، علميّة، للأضرار في كلّ بلدٍ في العالم، ولدى كلّ هيئة اجتماعيّةٍ من الهيئات فيه (طبقات، فئات، مناطق، قطاعات اقتصاديّة واجتماعيّة...). وهذا ممّا لا يمتكن أمرُه إلاّ من طريق إجراء دراسات تفصيليّة للبيانات والمعطيات والإحصاءات - الوطنيّة والدوليّة - ينهض بها (كلٌّ في بلده) فريقٌ - أو فِرقُ -عملٍ من الدّارسين المتخصّصين في ميادين الاقتصاد والاجتماع والديموغرافيا... إلخ، قبل أن يُصار إلى بناء استنتاجات تسمح برؤيةٍ تقريبيّة إلى صورة ما حصل. بيد أنّ هذا الشّرط العلميّ التّحتيّ - وقد يكون، حالياً، مُرْجَأ التّنفيذ - لا يحولُ دوننا وإدراك ما لا يمكنه إلاّ أن يُدْرك على سبيل الابتداه: إنّ الفقراء في العالم: دولاً وشعوباً وطبقاتٍ وأفراداً، هُم أولى الضّحايا وأكثرُهم تعرُّضاً للأضرار، إلى حدود الفتك بمصالحهم، من هذه الموجة الوبائيّة العالميّة.

على هذه الحقيقة بيِّناتٌ من أمثلةٍ لا تُحْصى: هل نمْلُك، مثلاً، أن نضع في كفّةٍ واحدة الخسائر الاقتصاديّةَ والاجتماعيّة التي أصابتِ الدُّولَ الغنيّةَ والصّناعيّة، في أمريكا الشّماليّة وأوروبا، والدّولَ الصّناعيّة الآسيويّة الكبرى (الصّين الشّعبيّة، اليابان، كوريا الجنوبيّة)، وتلك التي أصابت بلدان العالم الثّالث الجنوبيّة، وفي جملتها بلدان الوطن العربيّ والعالم الإسلاميّ؟ بل، حتّى في نطاق هذه المنظومة من بلدان الجنوب؛ هل تُقاسُ خسائر بلدان ذات اقتصادات قويّة مثل الهند والبرازيل والمكسيك والأرجنتين وجنوب إفريقيا وماليزيا وسانغافورة، مثلاً، بخسائر أخرى ضعيفةِ الموارد والقوى مثل أفغانستان وبانجلاديش ومالي وجيبوتي والسودان واليمن وموريتانيا؟ هذه واحدة؛ الثّانيّة أنّه لا قياس مع الفارق بين الطبقات والهيئات؛ إذ هل نملُك أن نقارن الأضرار الاجتماعيّة التي لحقت بالطّبقات المالكة والميسورة، في مجتمعات العالم كافّة، وتلك التي عصفت بمصالح الطّبقات الكادحة المحرومة والفئات الهامشيّة الواقعة خارج دائرة الإنتاج؟

من البيّن، إذاً، أنّ الأضرار والخسائر النّاجمة عن جائحة كورونا متفاوتةُ الحجم والأثرِ بنسبة التّفاوُت الخرافيّ بين ثرْوات الدّول ومداخيلها وإمكاناتها، والتّفاوُت الخرافيّ بين الرّأسمال وقوّة العمل، بين التّملُّك والحرمان. هذه حقيقةٌ ابتدائيّة؛ بل بديهيّة، تسبق أيّ بحثٍ علميّ في نِسب الخسائر والأضرار ومقاديرِها وتوجِّهُه حكماً. وإذا كان لا بدَّ من استقصاءٍ علميّ دقيق، هنا (وهو ما لا جدال في لابُدّيّته)، فإنّ موضوعه (هو) عوامل تلك التّفاوتات بين الدّول، أو بين الطّبقات الاجتماعيّة وأسبابُها المباشرة وغير المباشرة. وهذا يَرُدُّنا - حُكْماً - إلى نظام الرّأسمال السّائد، وإلى المِنْوال التّنمويّ المهيمن في العالم، وما يستجرُّ اتّباعُه والسّيرُ فيه من أكلافٍ اجتماعيّة وإنسانيّةٍ ثقيلة على البشريّة برمّتها؛ على نحو ما تُطْلِعُنا عليه تجربة العالم، اليوم، مع وباء كورونا وعجزُ أنظمة دوله الصّحيّة على كفِّه ودفعِه. منذ ابتداء انفضاحه أوّلَ مرّةٍ، حين كشف ماركس عورتَه قبل قرنٍ ونصف القرن؛ وبعد ردْحٍ طويلٍ من الزّمن أنفقه في استغلال الإنسان والطّبيعة والبيئة، لم يكُنِ الرّأسمالُ ونظامُه الاجتماعيُّ - الاقتصاديّ في حاجةٍ إلى نقدٍ حادّ، على نحو ما عليه الحاجةُ إلى ذلك اليوم. إذا كانتِ الحروب قد اندلعت، وأرواحُ الملايين أُزهِقت، والبيئةُ دُمِّرت، والحياةُ تعسَّرت على نصف البشريّة، والتّفاوُتات في فرص العيش تفاقمت، والأوبئةُ وزَحَفَت...، فلأنّ النّظام هذا كان شريعةَ هذا العصر وقانونَه الحاكم. ولقد آن لضحاياه أن يفتحوا جَرْدة حسابٍ معه على نحوٍ صارمٍ وعميق.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"