سياسيات الأديان

04:02 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

يعلم دارسو الإسلاميات، وسياسيات الإسلام، بوجه خاص، أنه ليس من نص على الدولة والسلطة في الإسلام، وفي نصه التأسيسي، بالذات؛ القرآن الكريم، وأن نسبة ذلك إلى الإسلام إنما هي من التأويل المتعسف لنصوصه. في هذا يشبه الإسلام المسيحية في تعاليمها؛ حيث لا تشريع فيها للدولة والسلطة السياسية، وحيث السيد المسيح يقول: «مملكتي ليست في هذا العالم». وفي هذا، أيضاً، يختلف الإسلام والمسيحية عن اليهودية التي تنص تعاليمها على الدولة، وتتدخل تشريعاتها في تفاصيل الاجتماع السياسي؛ على نحو ما يلْحظه كل من قرأ أسفار «العهد القديم»، خاصة الأسفار الخمسة الأولى منه، (أسفار الشريعة).
ربما أوْحى قيام «دولة المدينة» النبوية بأن السياسي في الإسلام منصوص عليه قرآنياً. وهذا غير صحيح، ويمكن لأيّ دارس أن يقف بنفسه على حالة الفراغ التشريعي القرآني في المسألة السياسية. وإلى ذلك لا تكفي آيتا الشورى القرآنيتان أن يبْنى عليهما قول بتشريع قرآني للدولة. أما لماذا «الفراغ التشريعي» السياسي، فلأن الإسلام دين، في المقام الأول؛ رسالة هداية إلى معتقد التوحيد، وإلى مكارم الأخلاق، وليس دولة، أو سلطة سياسية. وكل الذين درجوا على تعريف الإسلام بأنه دين ودولة - على مثال ما فعل أبو الأعلى المودودي وحسن البنا ثم سيد قطب - إنما هم يزيدون على تعاليم الإسلام ما ليس منها، أو همْ متأوِّلون من غير قيد من نص.
أما أن دولة المدينة قامت في صدر الإسلام، وأن رسول الإسلام الكريم كان قائدها، فليس في ذلك ما يحمل على الاعتقاد بأنها دولة دينية، أو أن من مقتضيات الدين والإيمان الدولة - كما سيذهب إلى ذلك فقه الإمامية - وإنما كان مبْنى الدولة تلك، وما أتى بعدها من دول في تاريخ الإسلام؛ على رعاية المصالح العامة للجماعة الإسلامية التي انتقلت - بعد الهجرة من مكة إلى يثرب -من مجرد جماعة اعتقادية إلى جماعة سياسية. ونبي الإسلام، قائد دولة المدينة، يختلف في دوره هذا-كل الاختلاف - عن النبي موسى الذي أقام الدولة، بموجب النص الديني، وكرس ذلك في جماعته اليهودية؛ فما استشار أحداً ولا اجتهد لأنه مقيد بنص.
أن يكون نبي على رأس الدولة - كما في حالة الإسلام - ليس قرينة على أن الدولة فيه دولة دينية، أو أنها من مقتضيات الدين، أو تعلة نتوسلها للقول إنها من تعاليم الدين. الدولة في عهد النبي الكريم، كما في عهودها كافة، مدنية واجتماعية. وليس يغير من هذه الحقيقة أنها يمكن أن تقوم باسم الدين، ومن طريق جسم كهنوتي يحتكر تفسير نصوص الدين واحتكار النطق باسمه. ألم تقم السلطة الثيوقراطية (سلطة البابوات) في أوروبا العصر الوسيط باسم دين خال من أي تشريع سياسي، (هو المسيحية)؟ ومع ذلك، فهي ليست من الدين في شيء، ولا هي طبقت تشريعاته، وإنما تأويل المؤسسة الكهنوتية الماسكة بزمام تفسيره الرسمي.
والخلافة التي قامت بعد وفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، هي نفسها مؤسسة سياسية، وإن كان على رأسها أكبر صحابة النبي، وأقربهم إليه؛ فقد خلفوه في القيادة السياسية للدولة لا في النبوة التي اختتِمت به، وبالتالي، فما من سلطة دينية لديهم سوى سلطة تعاليم الدين الجارية على كل المؤمنين، بمن فيهم هم أنفسهم، على عظيم مكانتهم في التاريخ الباكر، وفي المخيال الجمْعي للمسلمين. وإذا كان السؤال الذي قد يطرحه أي مؤمن هو: إلى من يعود، إذاً، أمر الإشراف على الشأن الديني في دولة من طبيعة مدنية؟ فإن الجواب الطبيعي هو أن الجماعة المؤمنة هي الجهة المكلفة بأمر دينها، لا تفوِت حق إدارة شؤونه إلى من ينصب نفسه ناطقا باسمها، لأن مصير ذلك إلى إقامة سلطة ثيوقراطية مثل تلك التي قامت في أوروبا العهد الوسيط، وكلّفتها غالياً، فكان عليها أن تشهد على حمامات دم - في الحروب الدينية - قبل أن تنهار فتتحرر منها.
غير أن إعادة الدين إلى حاضنته الطبيعية (الجماعة)، ينبغي أن يفْهم بمعنى دقيق. الجماعة (الأمة، الشعب) لا تملك الإشراف برمتها على شأنها الديني، تماماً كما لا تملك أن تدير شؤونها العامة بنفسها. ولكن الدولة - وهي مؤسسة سياسية - لا تستطيع أن تتدخل في الشأن الديني من دون أن يتأثر بذلك كيانها السياسي. لذلك، حتى تنْأى بنفسها عن مشكلات المنازعات على الدين، يقتصر دورها على حماية حق المؤمنين في التدين، وحماية الحق هذا من انتهاك فريق لفريق في المجتمع، والامتناع عن التدخل في شؤون الإيمان - لأنها شؤون خاصة - والاقتصار على ما له علاقة بالأمن الاجتماعي، والاستقرار، والسلم المدني، ووحدة المجتمع والدولة في ممارسات الناس عقائدهم، وعلى صوْن الدين من أي استغلال سياسي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"