الشاعر والأمير

01:17 صباحا
قراءة دقيقتين

يوسف أبو لوز

في كتاب «المستطرف الجديد» وهو عبارة عن مختارات من التراث أعدها هادي العلوي.. نقرأ هذه الحكاية:

دخل الشاعر أبو العميثل على طاهر بن الحسين مادحاً فقبل يده. فقال له طاهر: ما أخشن شاربك يا أبا العميثل فقال: أيها الأمير إن شعر القنفذ لا يضر ببرثن الأسد.. فضحك طاهر وقال: إن هذه الكلمة أعجب إلي من كل شعر. وأعطاه لقصيدته ألف درهم ولكلمته هذه ثلاثة آلاف درهم.

وعلى عفوية هذا الموقف بين الشاعر والأمير فإنه موقف ينطوي على نوع من البداهة النقدية التلقائية عبّر عنها الأمير حين أعجب بالعبارة النثرية التي قالها الشاعر. وهذه العبارة الصغيرة: «شعر القنفذ لا يضر ببرثن الأسد» تساوي في رأي الأمير الذي هو «رأي نقدي» ثلاثة آلاف درهم في حين أن قصيدة طويلة عريضة لا تساوي سوى ألف درهم.

وبعيداً عن الشاعر الأمير.. نقول إن الشعر يلمع كالذهب بين جميع المعادن والأصوات والضجيج والأشكال التي يمكن أن يكون موجوداً بينها.. ولو حشرنا الشعر بين آلاف ومئات الأصوات التي تدعي الشعر وتزعمه فإننا نستطيع أن نميزه ونتعرف إليه كما يتعرف الصائغ إلى الذهب الخالص من الذهب المغشوش.

والشعر المغشوش الكثير لا يمكن أن يغطي على الشعر الخالص مهما كثر ومهما علا صوته وضجيجه وصخبه، ولعل الشعر المزيف هو الذي يلجأ إلى الصخب والضجيج في محاولة منه لتغطية عوراته وتمرير زيفه وفساده.

وليس من الضرورة أن يكون الشعر موجوداً في كل قصيدة نسمعها من فم الشاعر، فقد يكون الشعر عالقاً في غصن شجرة أو في هدب طفل أو في عزلة حجر.. والشعر قائم هناك وموجود في «مكانه الآخر..» فهو في المقطوعة الموسيقية، وفي العمل الفني التشكيلي، والشعر موجود في علاقة الحب وعلاقة الصداقة.

الشعر في الحفل، وفي جناح الطائر وفي خصر الراقص وفي حضن الأم وفي ضحكة النهر ورحابة الغيم.

والشعر يقيم في النثر، أحياناً، أكثر مما يقيم في دواوين الشعراء وفي قصائدهم المدبجة الطويلة.

كل ذلك معروف للقراء والكتّاب والنقاد، والكلام الذي أقوله في هذا الصدد قد يكون كلاماً مكرراً ومطروقاً ومجرباً في وعينا الجمالي الذي نضج وتطور في السنوات الأربعين الأخيرة بشكل خاص عندما تحرر الشعر من القصيدة وأخذ يكشف عن جوهره المضيء - القديم والجديد- وفي مختلف التجارب الشعرية المبدعة والحية على مدى التاريخ الأدبي العربي.

أقول إن كل ذلك معروف، إلا أن هذه المعرفة الجمالية والجماعية يجب أن تكشف عن نفسها بشيء من الحصيلة النقدية التي تشكل في النهاية موقفاً فنياً نهائياً تجاه الإبداع وتجاه تمييزه واختباره إضافة إلى القدرة على المقارنة والمقاربة بين أنماط الكتابة على قاعدة وعي جمالي نقدي لا يقبل الغش أو المداهنة.

لذلك، فإن مكافأة الشاعر على جملته النثرية بأضعاف مكافأته على جملته الشعرية هي وعي نقدي يميز على الفور وببداهة بين الأبيض والأسود في الفن.. حيث لا مكان للون الرمادي أبداً في أية عملية إبداعية تتكئ على الموهبة والصدق والألم الخلاق.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"