عقيدة فرنسا النووية الجديدة

00:15 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد خليفة

يتجه العالم بسرعة قصوى نحو التغير والتبدل، حيث تظهر قوى دولية جديدة، بينما تعيش القوى الدولية المسيطرة في حالة من الضعف الاقتصادي، والتراجع السياسي والاستراتيجي. ويتجسد ذلك من خلال التوترات الي تطبع السياسة الدولية في الوقت الراهن.

 وتعد فرنسا إحدى القوى الدولية المسيطرة في إطار التحالف الغربي، ولهذه الدولة ماض استعماري رهيب؛ حيث كانت تستعمر معظم شعوب العالم مناصفة مع بريطانيا. وعقب الحرب العالمية الثانية انكمشت الدولتان مع تصاعد النفوذ السياسي والهيمنة للقطبين الجديدين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.

 وعقب تفكك الاتحاد السوفييتي نهاية القرن الماضي، وهيمنة الولايات المتحدة، كقطب أوحد على القرار الدولي، تقدمت فرنسا، خاصة بعد انكماش الولايات المتحدة وانشغالها بترتيب بيتها الداخلي المتداعي، لتعلن عن وجودها كقوة دولية، منصبةً نفسها دولة قائدة للاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا منه. وفي هذا الصدد أعلن الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون عن عقيدة فرنسا النووية الجديدة، التي تقوم على أساس امتلاك قوة ردع نووية مؤلفة من نحو ثلاثمئة رأس موزعة بين مكونين اثنين.. أولهما بحري، ويسمى «القوة البحرية الاستراتيجية» وتتشكل من أربع غواصات ذات دفع نووي قاذفة للصواريخ، وهي توفر ما يعد «الضربة الثانية»، والمكوّن الثاني: جوّي، ويسمى «القوة الجوية الاستراتيجية» وقوامها طائرات ميراج ورافال، الموجودة على ظهر حاملة الطائرات «شارل ديغول» ذات الدفع النووي، وهي الوحيدة التي تمتلكها فرنسا. وفي عام 1996 تخلت فرنسا عن مكون ثالث في قدراتها النووية، هو الصواريخ البالستية العابرة للقارات التي كانت مخزنة في مواقع ثابتة تحت الأرض، لإدراكها أن تلك الصواريخ لم تعد مهمة بعد زوال الخطر الشيوعي بسقوط الاتحاد السوفييتي السابق، ثم أعلنت فرنسا عن نيتها بناء ستة مفاعلات نووية ضخمة.

 وكان الرئيس الفرنسي ماكرون قد دعا، خلال عرضه العقيدة النووية لبلاده، الشركاء الأوروبيين إلى حوار استراتيجي بشأن دور سياسة الردع النووي الفرنسية. كما جدد دعوته للاندماج الأوروبي في المفاوضات بشأن اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية.

 والواقع أن العقيدة النووية الفرنسية الجديدة ذات أهمية كبيرة لتأكيد وجود فرنسا كقوة عسكرية دولية، بالرغم من أن هذه الدول تعاني من ديون كبيرة تقدّر بنحو ألفي مليار دولار، وهي وإن كانت قادرة على إنتاج وامتلاك الرؤوس النووية وأنها دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، لكنها غير قادرة على فرض إرادتها على الدول الأخرى، وأيضاً فإن الاتحاد الأوروبي ليس ثابتاً، فمعظم دوله لا تزال مكبلة بالديون، وخروج بريطانيا من هذا الاتحاد كان رسالة بأن الوضع الأوروبي لا يمكن احتماله.

 لا شك أن لفرنسا حضورها الدولي الواسع بحكم ماضيها الاستعماري، وتأثيرها في شعوب عديدة تشكل اليوم ما يعرف بالرابطة «الفرانكفونية»، وهي أيضاً تملك زمام المبادرة للتدخل العسكري لإنقاذ الحلفاء، كما تدخلت عام 2013 في مالي، لكن تحركها الدولي يتم بغطاء من الحليف الأمريكي الكبير وبدعم مباشر منه. 

 ورغم أن الصراع الدولي اليوم يأخذ شكل المواجهة بين الغرب من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى، لكنه في حقيقة الأمر، صراع حول موارد الطاقة الآخذة في النفاد. وتعاني دول الاتحاد الأوروبي، ومنها فرنسا، من شحّ موارد الطاقة في أراضيها، ولذلك فهي مضطرة للبحث عن موارد آمنة ودائمة لاستمرار النمو فيها. وتملك روسيا في أراضيها الشاسعة، أكبر خزان للنفط والغاز في العالم. وقد استطاعت في مرحلة التعاون مع الاتحاد الأوروبي أن تبرم اتفاقيات لتوريد الغاز لدول أوروبية عديدة مثل ألمانيا والنمسا وإيطاليا واليونان. وتصل اليوم إمداداتها من الغاز إلى ألمانيا والنمسا عبر ما يسمى خط «السيل الشمالي1»، وهناك خط «سيل شمالي 2» الذي سيصل أيضاً إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق. وبالتالي فقد ارتبطت روسيا بعلاقات اقتصادية لا تنفصم مع دول الاتحاد الأوروبي، أو مع دول مؤثرة في هذا الاتحاد وعلى رأسها ألمانيا، وتحاول الولايات المتحدة أن تدفع الأوروبيين إلى إلغاء اتفاقيات الغاز المبرمة مع روسيا، لكن هؤلاء يطالبون بالبديل الذي فشلت الولايات المتحدة في تأمينه. ومن هنا فإن الغرب يقف اليوم على أعتاب مرحلة مصيرية من تاريخه، وبقاؤه كتلة واحدة أمر يعتمد بصورة أساسية على قدرته على تأمين مصادر طاقة بديلة عن الغاز الروسي. وإذا نجح في ذلك فإن الصراع مع روسيا سيشهد تسعيراً كبيراً، أما إذا فشل، فإنه لا مناص من اعترافه بالواقع، وعند ذلك سيضطر الاتحاد الأوروبي إلى رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"