دولة الخمسين

00:36 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبدالله السويجي

أن تقرّر بناء دولة حديثة في صحراء مترامية الأطراف، وترسم على الرمل بروح العارف حدائقها الخضراء، ومؤسساتها وجامعاتها ومستشفياتها، وتنظر في داخلك فترى مستقبل إنسانها، ونوعية الحياة التي تطمح إلى تحقيقها، وتعلن هذا بجرأة مدهشة أمام الملأ بالفم الملآن، هي مغامرة بكل المقاييس. 

ويحضرني في هذا السياق قولان، أحدهما للشاعر الإنجليزي «ت.س. إليوت» الذي قال: «من يغامرون بالذهاب إلى أبعد الحدود، هم وحدهم من يعرفون المدى الذي يمكن للمرء الوصول إليه»، وثانيهما للكاتبة الأمريكية هيلين كيلر التي قالت: «الحياة إما أن تكون مغامرة جريئة أو لا شيء»، ومؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة، التي ستحتفل بيوبيلها الذهبي بعد تسعة أشهر، كان يرى المدى الذي سيصل إليه، وكان يعرفه، بناء على رؤية شاسعة وسع مدى الصحراء، وعلى رؤيا خضراء تخترق صفرة الغبار، ولا تأتي إلا لقيادة طموحة؛ حلمت ورأت وخططت وقررت ونفّذت، ولم يكن الدافع مجداً شخصياً، ولا تحقيق مآرب خاصة، وإنما كان الهدف شعب الإمارات المنتشر على جغرافية الوطن. 

وقد وجد باني النهضة المباركة، المغفور له بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، أن يبني لنفسه وعائلته قصراً له ولأسرته، سعادته في أن يبني قصراً كبيراً يُسكن فيه قبيلته وشعبه، فتحولت الإمارات إلى بيت واحد يسكنه شعب واحد، وصار الباني «بابا زايد».

 الخمسون، كلمة واحدة لكنها في الواقع خمسة عقود، وخمسون عاماً، لكنها ليست كثيرة إذا ما قيست بحجم البناء ووفرة العطاءات ونوعية الإنجازات، وقد تحدث كثيرون في هذا المحور، واعتبروا بناء دولة حديثة جداً خلال هذه المدة إعجازاً، وفي الواقع، فإن لفظة معجزة أطلقت على الإمارات قبل أكثر من عقدين من الزمان، ترى ما هي المفردة التي يمكننا استخدامها إذا أضفنا عشرين عاماً على المعجزة، وقد دخلت الإمارات عصر الفضاء والذكاء الاصطناعي، وقبلها دخلت عصر الصناعة بكل فروعها؟ اللغة هنا تقف عاجزة، فلا يوجد وصف للدهشة أكثر من مفردة المعجزة.

  نحن هنا لا نتحدث بلغة إنشائية تهويمية، ولا نلجأ إلى البيان لنعلي من شأن الدولة، لأن الدول تحوّلت إلى بلاغة البناء، وهو بناء يتجاوز المادي نحو المعنوي والروحي والرقمي وصولاً إلى لغة الكوكب الأحمر، أي سارت من الأرضي نحو الفضائي لتسجل اسمها في مدار الكواكب والنجوم، وتحقق استدامة دورانها الباعث للنور الذي يضيء القلوب والعقول قبل الشوارع والمباني، وهو جوهر بلاغة البناء، لتؤسس للعلماء والشعراء حيثيات الانطلاق نحو أحلام جديدة ورؤى أكثر عمقاً وازدهاراً.

  دولة الخمسين تجاوزت بحنكة وذكاء شديدين ما أحاطها من براكين عسكرية وطوفانات سياسية وأعاصير وعواصف إقليمية وعالمية، وواصلت التحليق بأجنحتها، فظللت شعبها بالأمان والاستقرار، وشعبها هو كل من يتنفس هواءها ويشرب من مائها ويساهم في مواصلة البناء، وهذا ما أكدّ عليه خطاب احتفالات الخمسين، فلا فرق بين مواطن ومقيم إلا بالعطاء والانتماء والحب، وهذا التوجه ليس خطاباً إعلاميا فحسب، بل رؤية استراتيجية، ستسهم في تجسيد معايير السعادة العلمية والتنموية، ومبادئ السلام واحترام الثقافات.

  هنالك خمسون عاماً قادمة، هي هدف المخططين الاستراتيجيين، وهدف أصحاب الرؤى والأحلام غير المحدودة، حيث العمل على مواصلة تعزيز الخطط الرامية للوصول إلى اقتصاد لا يعتمد على النفط بل على مجتمع المعرفة، وتحقيق الحكومة الرقمية الشاملة، وتأصيل قيم الولاء والانتماء، والانطلاق بالعلاقات بين عناصر المجتمع إلى المزيد من التكامل، وتأمين المتطلبات الضرورية والعيش الكريم للأجيال القادمة، وكلنا أمل وإصرار وإرادة وإيمان في أن تحتفل إمارات الحب والعز بعيدها المئوي وهي ترفل بالسعادة والشموخ.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"