عادي

«منقوشة أبو شادي» تغيب عن موائد الفقراء في بيروت

14:43 مساء
قراءة 3 دقائق
بيروت

بيروت - أ ف ب
داخل فرنه الصغير في أحد شوارع منطقة رأس بيروت، يتحسر أبو شادي على "بركة" باتت مفقودة، بعدما تضاعف ثمن المنقوشة خمس مرات على وقع انهيار اقتصادي غير مسبوق لم يستثن وجبة الفطور المفضلة عند اللبنانيين.
وأمام الفرن، أو "بيت النار" كما يسميه، يهندس أبو شادي (54 عاماً) مناقيش الزعتر والجبنة، ويتفنّن في نثر السبانخ الخضراء ورشّ الحرّ عليها، في إضافةٍ تميّزه عن سواه من الأفران وتجذب زبائن من مناطق أخرى، على حد قوله.
ويقول الرجل: "منذ العام 1987 وأنا على هذه الحال في هذا الفرن، بالبركة والخيرات، لكن اليوم ذهبت البركة وذهبت الخيرات".
وبينما يدخل العجين إلى الفرن، يتلقى طلبيات عبر الهاتف مردداً "من عيوني" لكل متصل. ثم يمازح زبوناً ينتظر في المحل تلبية طلبه، ويلوّح بيده لأحد معارفه أثناء مروره بسيارته في الشارع، ويرفع نظره بين الحين والآخر ليرد على تحيات المارة أمام فرنه.

"أكل عيش"

ولا يفوت أبو شادي الذي يغنّي بصوت جهوري مرتفع أثناء تحضيره المناقيش، أن يلقي التحية بدوره على سيدة مسنة، متغزلاً بتصفيفة شعرها الأشقر.
لكنّ روح الدعابة التي تجعل كل من يقف أمام فرنه مبتسماً وتدفع أحد زبائنه الى تلقيبه بـ"الملك"، سرعان ما تتلاشى لدى سؤاله عن منقوشة الزعتر وارتفاع ثمنها.
ويشرح أبو شادي بإسهاب أن "المنقوشة هي بمثابة الأم والأب للشعب اللبناني، هي (أكل عيش) الغني والفقير".
لكن على وقع الانهيار الاقتصادي الذي يرزح تحته لبنان منذ خريف 2019، والمترافق مع شحّ في السيولة وارتفاع جنوني في الأسعار، تراجعت قدرة اللبنانيين الشرائية وخسر عشرات الآلاف وظائفهم أو جزءاً من مداخيلهم، وباتت سلع ومنتجات عدة من الكماليات، المنقوشة من بينها بالنسبة لكثيرين.
ويضيف أبو شادي: "للأسف في هذا الوقت، لم يعد الفقير قادراً على أكل المنقوشة"، ويتابع: "كان ثمن منقوشة الزعتر بين ألف و1500 ليرة، أي ما يعادل دولاراً، وباتت اليوم خمسة آلاف، لكنها لا تعادل نصف دولار"، بينما يصل سعر أصناف أخرى إلى عشرة و15 ألفاً.
ويشهد لبنان أزمة اقتصادية ومالية غير مسبوقة، تراجع معها سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار من 1500 إلى حوالي 12 ألفاً في السوق السوداء.

مهما بلغ ثمنها

خلال أكثر من ثلاثة عقود عمل فيها يومياً في الفرن، اعتاد أبو شادي خصوصاً في عطلة نهاية الأسبوع على إقبال زبائن يطلبون سبعة أو ثمانية مناقيش من الزعتر للفطور، لكن منذ شهرين أو أكثر لم يعد ير أياً منهم.
ويردف قائلاً: "باتت المنقوشة للميسورين فقط، فمن يجني ثلاثين أو أربعين ألفاً يومياً لن يدفع ثمن منقوشة الزعتر خمسة آلاف، وعليه مصاريف أخرى".
وعلى غرار كثر، لم يجد أبو شادي خياراً أمامه إلا رفع الأسعار، بعدما ارتفع ثمن كل المواد الأولية التي يحتاجها من زيت وطحين وزعتر وأجبان، ومستلزمات الفرن من صحون وأوراق يلفّ بها المناقيش الساخنة.
ويشير إلى عبوتي زيت قائلاً، إن ثمنهما ارتفع من 86 ألف ليرة قبل الأزمة الاقتصادية إلى 980 ألفاً اليوم، جراء تدهور سعر صرف الليرة القياسي مقابل الدولار.
ويستطرد: "كنّا بألف نعمة ولا نشعر بأزمة، لكن وضع الناس تدهور كثيراً. لم تمرّ علينا مثل هذه الأيام".
وبعد أن تنضج كل منقوشة، وتلمع فقاعات الزيت فيها، يخفّف أبو شادي النار داخل الفرن، توفيراً لمصروف الغاز، ويتحسّر على أيام خلت كان يُشعل النيران عند الثامنة صباحاً ولا يطفئها قبل الثالثة عصراً.
وعلى براد خلفه، علّق أبو شادي قائمة بالأسعار الجديدة، وعلى جدار قربها علق مقالاً باللغة الفرنسية داخل إطار خشبي، يقول إن صحيفة نشرته قبل نحو عامين "تثني فيه على نكهة وجودة إنتاجه".
ويقول محمود، أحد زبائن الفرن، بينما يلتهم منقوشة بالكفتة والجبنة: "أتردّد منذ سنوات إلى هنا، من يعتاد على منقوشة أبو شادي لا يمكنه استبدالها بأخرى مهما بلغ ثمنها".
واسم أبو شادي، في رأي هذا الأخير، يجعله قادراً على الاستمرار رغم الأزمة، بينما أفران صغيرة أخرى تضطر لإقفال أبوابها تباعاً.
ويضيف أبو شادي: "بعد هذا العمر والاسم والتعب، ما زلت صامداً لأنني أعمل بيدي. ما يدفعه سواي لعامل الفرن، آخذه وأعيش به"، ويتابع: "اتكالي على الله وعلى زندي" فقط.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"