عادي

هل للكذب حكمة أو فلسفة أو تراث؟

19:23 مساء
قراءة 4 دقائق
1

الشارقة - يوسف أبولوز
من هم فلاسفة الكذب؟ ومن هم مفكّروه وحكماؤه وأدباؤه وشعراؤه؟.. أسئلة غريبة بعض الشيء، فلم يسبق لأحد في التاريخ أن جعل من الكذب مادة أدبية أو فكرية أو فلسفية مع أن تاريخ بعض السياسيين أو عرّابي السياسة ومفكريها مثل الإيطالي نيكولو مكيافيلي صاحب نظرية «الغاية تبرر الوسيلة» لم يبتعد في فكره النفعي الانتهازي هذا عن فضاء الكذب، أما جوزيف جوبلز وزير الدعاية النازية في فترة هتلر، فيروى عنه أنه قال صراحة: «اكذب، ثم اكذب حتى تُصَدّق»، غير أن الكتاب الذي نقرؤه اليوم وهو بعنوان «حكمة الكذب»، الطبعة الثانية 2020، وصدر عن دار الحوار للنشر والتوزيع، دمشق، وهو من ترجمة نزار خليلي ... لا علاقة له بتبرير الكذب أو شرح ثقافته وتاريخه والترويج الدعائي له؛ بل، هو مجرّد كتاب حكايات يقول المترجم في مقدمته أنه يُستدل من عنوانه أنه مقتبس من الكتاب الهندي «حكمة بالافار» المعروف في الغرب باسم «بارلام وجوزيفات»، وقبل أن نطوف في هذا «الكذب الحكائي الأبيض» نعرّف بالمؤلف من خلال مقدمة الكتاب، فقد وضع كتاب «حكمة الكذب» الكاتب الجورجي «صولخان سابا اوربيلياني، 1658-1725»، وهو ليس مجرد كاتب أو أديب وكفى؛ بل هو سياسي ومعجمي ومترجم أيضاً، وهو سليل أسرة نبيلة في جورجيا، وتقول المقدمة إن جدّ صولخان كان يشغل منصباً رفيعاً في بلاط الملك الجورجي رستم، ومنذ صغره انغمس في حياة البلاط الملكي الجورجي.
صولخان سياسي حاول تشكيل قوّة مركزية من الإقطاعيين لتوحيد المناطق الجورجية، لكن في الأثناء، عيّنه الملك فاختناك مستشاراً له.. «.. فقبل المهمة، وأخلص للملك طوال حياته، وأصبح السيد المطاع في القصر..»، وفي الأربعين من عمره يصبح راهباً، وفي الخمسين موفداً إلى ملك فرنسا وبابا روما لحضهما على الاهتمام بقضايا جورجيا ونشر المذهب الكاثوليكي فيها، وقبل ذلك، وهو في السابعة والعشرين من عمره ينجز الجزء الأول من القاموس الجورجي، وكان يجيد اليونانية، والأرمنية، والفارسية، إلى جانب لغته الأم الجورجية، وهو رَاجَعَ وَنَقّح كتاب كليلة ودمنة بطلب من الملك الجورجي فاختناك السادس.
إذاً، هنا حياة رجل مملوءة بالتجارب، والتجربة تُولّد الحكمة، والحكمة لا تعرف الكذب، ومثلما الحكمة «يمانية» كما تقول العرب، فهي أيضاً جورجية، ولكن على طريقة الحكايات.
.. كيف يمكن أن يؤكل الخبز مع الخبز؟.. هي إحدى هذه الحكايات.. يروي صولخان.. «كنا أربعة إخوة متزوجين، وكانت زوجتي تلح عليّ دائماً قائلة إذا انفصلت عن إخوتك، فأنا امرأة تطعمك طبقاً من الخبز مع الخبز، ولم تدعني لا في الليل، ولا في النهار حتى انقطعت أخيراً عن إخوتي، وقلت لها:- هيا.. افعلي ما تريدين... كيف يؤكل الخبز مع الخبز؟، فجاءتني بطبق فيه قمح مسلوق مع رغيف خبز وقالت: ها هو كُلْ، ومن غيظي حملت متاعي، وتركت البيت..».
في مكان آخر نقرأ عن اللسان، أو عن حكمة اللسان، والعرب تقول: «المرء مخبوء تحت لسانه»، ثم إن اللسان هو عضلة الكذب أو عضلة الصدق، ولا شيء أحلى من اللسان عندما يتكلم المرء بمعسول الكلام، ولا شيء أيضاً أكثر مرارة من اللسان عندما يتكلم المرء بمر الكلام. صولخان استوعب حكمة اللسان سواء من فضائه الاجتماعي والفلسفي والحكمي الجورجي، أو من فضائه الكوني العالمي.. وكانت هذه الحكاية.. «..أمَرَ ملك وزيره قائلاً: اذهب وهيئ لي طبقاً من الطعام فيه أحلى شيء على الأرض وفي البحار، فذهب الوزير واشترى لساناً وَقَلاهُ وَجَهّزه ووضعه في طبق، وقدمه للملك الذي أعجب به، ثم أمره للمرة الثانية: اذهب وهيئ لي طبقاً ليس أمَرّ منه في الكون على الإطلاق، وذهب الوزير مرة أخرى، واشترى لساناً قدّمه للملك، فقال له الملك.. عجيب أمرك، أطلب شيئاً حلواً فتأتيني بلسان، وأطلب شيئاً مرّاً، فتأتيني بلسان أيضاً، فقال الوزير، أقسم برأسك يا مولاي على أن لا شيء في الدنيا أحلى ولا شيء أمّرّ من اللسان..».
حكايات صولخان مركّبة، وتبدو على لسان ملوك ووزراء، وقادة، ونبلاء، وقياصرة، وخدم، ونساء، ومثلما أن الجمال لا مكان محدداً له، ولا جنسية ولا ديانة، فكذلك النبل، وهذه حكاية النبيل والجثة العارية.. «.. كان أحد النبلاء يعمل في خدمة القيصر، فأوفده القيصر سفيراً إلى فرنسا، وكان النبيل فعّال خير، يفعل الخير سرّاً، فسار، وبعدما قطع شوطاً من الطريق، شاهد في مكان ما جثة عارية مسجّاة على الأرض، فابتعد قليلاً وقال لخدمه: استمروا في السير ولا تنتظروني، وعندما ابتعد هؤلاء، عاد أدراجه، وخلع ثيابه، وألبس الجثة ثوباً من ثيابه الداخلية، ثم ارتدى ثيابه، ولحق بأصحابه..».
حكايات مروية، أو أنها مؤلّفة، أو أنها محاكاة للتراث الحكائي الشعبي الأسطوري التراثي في سرديات العالم، وبخاصة في الشرق؛ حيث يتشابه الكثير من هذه الحكايات مع سرديات شعبية صينية، وهندية، وعربية على الرغم من الروح الشعبية الأوروبية الجورجية، لا بل هناك حكايات على لسان الحيوانات، الأمر الذي نجد فيه أصداء كليلة ودمنة، والجاحظ، وألف ليلة وليلة..
في هذه الحكايات، مثلاً، الثعلب يعظ، أما الحمار فهو يستخدم عقله لينجو من أسنان الذئب، وفي مكان آخر يلتقي الحمار والنمر والثعلب والذئب، وتلتقي السلحفاة مع العقرب، وببساطة، ثمة فضاء حكائي شعبي يرشح بالحكمة، لا بالكذب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"