إن علاقة الرسام بالأشياء التي يرسمها علاقة تتداخل فيها الذاكرة، وهذا يجعل الرسام يضطلع بمهمة تحمل الكثير من المعاني تتعدى نقل الصورة إلى اللوحه. يحدد المحتوى المطروح في لوحة الرسام هويته واتجاهاته وفلسفته في الحياة، فالرسام ينثر تصوراته وأفكاره ومشاعره في اللوحة المرسومة، التي تلخص مجموعة من الرسائل والمشاعر المكبوتة لديه، والتي يتخلص منها بطريقة إبداعية. يقوم الرسام من خلال عمله بعملية «تفريغ إبداعية» وهي أنجح الوسائل لعلاجه من الضغوط النفسية، حيث يستثمر خبراته المتراكمة، من أمل ورفض وفرح ومعاناة بطريقة فنية. تحقق اللوحة التي تعبر عن الرسام حالة من الراحة النفسية بعد اكتمالها ومشاركة الجمهور في تفسيراتها وتحليلها.
إن تأملات الرسام تعطي الفرصة لتحقيق مزيد من الإبداع، وهذا التأمل يعمل على تعطيل صلته بالواقع، فالواقع في نظر الرسام يتغير تبعاً لرؤيته الخاصة. إن التأمل يساعد على الإبداع، خاصة إذا تزامن ذلك مع توحده مع عالمه الخاص محاولاً التعبير عن حياته في العزلة، وكلما أمعن الرسام في ذاته يزداد انسحاباً من العالم الخارجي، ويزداد إبداعاً لأن الإبدع هو الانصراف من الخارج إلى الداخل، بمعنى آخر تمثل اللوحة المرسومة حالة من تعطيل العقل الواعي لصالح العقل اللاوعي، والتي تشكل رؤية خاصه بهذا الرسام لكي يقدم لاحقاً للجمهور خزائن اللاوعي. وربما يكون ثمن هذا الإبداع اختفاء الرسام عن الساحات العامة ومجالس اللقاء والمناسبات. إن حالة التأمل التي يعيشها الرسام تصل به إلى لذة لا يرتقي إليها الكثيرون.
الرسام الحقيقي مشغول في إقامة علاقة بين الشيء والشيء، وتأسيس حالة فهم خاصة قد تكون موجودة وقريبة منا، فلا نستطيع التقاطها بحسب محدودية قدرتنا على التجاور، وهذا يعني أننا ندهش كثيراً لهذا السهل الممتنع من الفن الذي يدور حولنا ولم نفطن إليه، وبهذا نصبح قادرين على الانتباه إلى بعض الأمور التي هي جلية أمامنا وانشغلنا عنها، وربما اكتشفنا الكثير من الخفايا التي كانت غير واضحه لنا وللعامة.
إذا درسنا حالة الرسام بيكاسو الذي استقر في باريس، وصور من خلال لوحاته مشاعر الحزن والكآبة التي عكسَت تجربته ومشاعره الداخليه اتجاه الواقع المعاش، فالمعاني والمضامين التي احتوتها لوحاته في غربته تعكس معاناة واقع يعاني الدمار في أوروبا إبان الحرب العالمية الأولى والثانية. اتجهت لوحاته لتصور الوضع الاجتماعي والاقتصادي فركز فيها على الضعفاء والمقهورين من الشعب، وأصبح جزء كبير من لوحاته يعبر عن ذلك الواقع الأليم، ومن ضمن أشهر لوحاته «عازف الجيتار الأعمى»، التي كشفت عن صورة رجل حزين الوجه يرتدي ملابس بالية، يجلسُ في فضاء أزرق قاتم، ويعزفُ على آلة الجيتار باللون الزاهي الذي يمثل الأمل، تُسلّط هذه اللوحة الضوء على المعاناة النفسية والاقتصادية لدى المبدعين.