الرجل الصياد والتاريخ

00:25 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

هل فكرت يوماً في السبب العلمي وراء انهماك النساء في التسوق لفترات طويلة، بينما لا يأخذ قرار الشراء لدى الرجال عدة دقائق؟ هي ظاهرة يعرفها معظمنا، ولكننا لم نتوقف عندها طويلاً، ويحاول بعضنا تقديم تفسيرات حسب قراءته الشخصية لطبيعة الاختلاف بين الجنسين. ولكن الكاتب الأمريكي سكوت جالواي في كتابه «الأربعة..الشفرة الخفية لأمازون وأبل وفيسبوك وجوجل»، يذهب بعيداً.. إلى الإنسان الأول، حيث كان الرجل البدائي ينطلق ليصطاد الحيوانات البرية، والتي كانت تحتاج إلى سرعة في الحركة وحسم في القرار، بينما تبقى المرأة في المنزل ترعى الأطفال وتخرج لجمع ثمار الفاكهة والخضروات من الحقول القريبة، وكان عليها أن تدقق جيداً فيما تختاره حتى لا تقدم لأسرتها طعاماً فاسداً.

  ما يلفت النظر في قراءة جالواي ليس ذلك التفسير الذي ربما يعجب البعض، ولكن ما يقوله وراء السطور، حيث يتضح للقارئ سريعاً أن الكاتب الأمريكي يُنّظر للنزعة الاستهلاكية، فهذا الرجل الصياد وتلك المرأة التي تجمع الطعام، لم يشعرا بالاطمئنان والسعادة إلا بعد إتمام مهمتهما، أي بعد امتلاك أكبر قدر ممكن من الأشياء، وهو ما يقوله صراحه في فصول كتابه. فعندما نستهلك كميات أكبر، وخاصة تلك التي تعود إلى منتجات أغلى تتحرك مراكز السعادة في المخ حتى نحّس بالراحة، وعبر تحليلات مطولة يذهب إلى أن هذا أيضاً أحد أسباب نجاح الأربع شركات الكبرى في العالم التي ضمّنها في عنوان كتابه. 

  جالواي ليس بمفرده في هذا المجال، بل هناك سيل من الكتب التي تتحدث عن إمتاعية الاستهلاك، وجاذبية الماركات العالمية، وحكايات التحدي وراء نجاح المشروعات الرأسمالية الكبرى، وجالواي ليس بمفرده كذلك في التأصيل التاريخي للنزعة الاستهلاكية، وهو تأصيل يلعب على أكثر من مستوى: اجتماعي وثقافي ونفسي، ويدرك تماماً أن من يملك مفاتيح الماضي يستطيع التحكم في الحاضر وتوجيه المستقبل.

  وإذا عدنا عدة عقود إلى الوراء، سنجد القصة نفسها موجودة في كل الأدبيات الاشتراكية، فالمجتمعات البدائية التي قامت على الصيد وجمع الفاكهة، تشاركت فيما تحصل عليه بمجهودها وقوة عملها، وكانت بمكانة المدن الفاضلة لمفكري الاشتراكية، والحلم المثالي لمستقبل يخلو من الصراع حول الملكية الخاصة..مستقبل تختفي فيه الأنانية، وهو ما كان يتطلع إليه هؤلاء المفكرون، بل إن القصة تكررت في أعمال نسوية بحثت عن مكانة ودور أساسي للمرأة فيما قبل التاريخ، وفي أعمال تنويرية، هدفت إلى المساواة بين الجنسين، وفي كتب صورت تلك المرحلة البعيدة من الماضي ضمن مناخات رومانسية. وليست القصة في مجملها هي ما يتم توظيفه، ليحقق هذا الكاتب أو ذاك أهدافه، ولكن أدق تفاصيلها أيضاً استخدمت، لتؤكد وجهه النظر المنشودة.

 هل يحركنا التاريخ، أم نحن من يتحكم فيه؟ وهل تتسم حقائقه بالثبات؟، وإلى أي مدى يتسم بالنزعة العلمية؟ البعض سيؤكد الطابع العلمي للتاريخ، ولكن هذه القصة والكثير غيرها ربما تدفعنا إلى إعادة التفكير في طبيعة التاريخ نفسها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"