عادي
على خطى بطله استقبل تولستوي الموت بسلام

«إيفان ايلتش».. أشهر مريض في الأدب

23:02 مساء
قراءة 3 دقائق
1702
1701

محمد إسماعيل زاهر

تنتهي نوفيلا «موت إيفان ايلتش» لتولستوي بحديث باطني للبطل، يقول: («انتهى الموت» قال لنفسه «لا موت ثانية». سحب نفساً، توقف وسط الشهيق، تمدد، ومات). هل الموت نهاية لكل أحلام و آلام، انتظارات، الحياة؟ إن وراء هذه المشاعر ما يندرج تحت اللامرئي، فتولستوي يقولها صراحة، لا انتظار يستحق أن يلعب بنا بين رحى الخوف والأمل، لا انتظار يستحق أن يسرق أوقاتنا في تلك الحياة التافهة والسطحية، مرحباً بالموت، الانتظار الأكبر، أو سيد الانتظارات، هو يأتي مرة واحدة، نهاية لا يعقبها انتظار آخر نعاني خلاله الترقب ونتطلع عبره إلى وعود مخادعة.

يشفق تولستوي، على قارئه، فلا يورطه في عبء انتظار ما يتكشف عنه السرد ببطء من أحداث، يبدو ذلك من العنوان، لكن عندما نفتح الصفحة الأولى يحدونا الشغف ب«نوفيلا» تقليدية تفصح رويداً رويداً عن «كيف مات إيفان ايلتش؟»، يفاجئنا بخبر موت بطله من الصفحة الأولى.

لحظات مكثفة

يتنقل بنا تولستوي طوال السرد بين مخاوف وآمال السيد ايلتش، ليس في مرضه وحسب، لكن في حياته أيضاً، في عمله وزواجه وعلاقته بأسرته ومحيطه الاجتماعي، هناك لحظات مكثفة من القلق والتوتر يترقب فيها إيفان النجاح وتحقيق مكانة مرموقة و إيجاد موقع مميز تحت الشمس، ينجح ومع كل نجاح هناك مشاكل، احتياجات مادية، متطلبات يستدعيها وضعه البرجوازي، هلع من عدم تناسب موارده مع وظيفته، هو قاض في إحدى المقاطعات الروسية، وفي الخلفية هو ينتظر ومعه أسرته وكل المحيطين به اكتمال الوجاهة الطبقية.

في منتصف الحكاية، المستعادة من السارد، يصاب ايلتش بمرض غامض محير، هنا يتحول الانتظار من المجتمعي إلى الفردي، ويبدأ البطل في إدراك هشاشته، وسطحية حياته التي أمضاها في الحلم بمنزل فخم أثثه على مهل وبهدوء، وخلافاته اللامجدية مع زوجته، بدا له العالم صغيراً ولا يستحق أن نلتفت إليه، تحول بكليته إلى حالة مر بها كل مريض، يقرأ عن مرضه الذي لا يعرفه على وجه الدقة، يزور الكثير من الأطباء، عندما يصادف أن يجلس على مقربة من بعضهم يتحدثون عن حالة شبيهة بحالته يوظف حواسه كلها للانخراط في حديثهم، يلجأ إلى الوصفات الشعبية، يجرب أكثر من دواء، يتجنبه الألم للحظات يتحول فيها إلى طائر الفينيق الذي يبعث حياً من رماد المعاناة، ولا يلبث أن يكتسحه الألم فلا يستطيع النوم وتطارده الوساوس ويحلم بالكوابيس، وفي وسط كل هذا يعثر على فرديته المطلقة، فعندما نتألم لا يشاركنا أحد آلامنا، يفكر أيضاً أن إنجازاته في الحياة، تلك التي لا قيمة لها، قام بها بمفرده، يبدأ في الإحساس بالنفور ممن حوله، أولئك لا يمكنهم تخيل مصيبته، تراوده أسئلة من قبيل لماذا اختاره الله بالذات في هذه السن الصغيرة، منتصف العقد الخامس، يماهي بين ذاته والوجود نفسه: «حين لن أعد هنا؟، ماذا سيكون هناك؟ سيكون هناك لا شيء، إذن فأين سأكون حين لن أعد هنا؟».

لحظات كشف

تتواصل لحظات الكشف لدى ايلتش خلال سكراته، أنطفأ الأمل، وتوقف جميع الأطباء عن خداعه، وليس أمامهم إلا تخفيف آلام المحتضر بالمورفين، في أيامه الثلاثة الأخيرة أدرك بين صراخه وتوجعاته أن حياته أصبحت وراءه، وأن متعة انتظاراته لأي شيء انتهت، هو الانتظار مقلوباً أو معكوساً، فعندما تسطع شمس الموت فلابد أن يتلاشى «ظل» البقاء، ومع زوال ذلك الظل تتكشف الحقيقة؛ حيث الحياة بأكملها زائفة، قبل أن يموت ايلتش مباشرة «اتضح له إنه لم يكن حقيقياً قط»، وهنا شعر بالهدوء.

يحاول تولستوي أن يكسب بطله خبرة الموت، لكي يرحل بسلام: «ظل لثلاثة أيام كاملة، فقد خلالها الإحساس بالوقت، يكافح في ذلك الكيس الأسود الذي حشرته فيه قوة لا مرئية لا سبيل لمقاومتها» و«ما حدث له أشبه بما يحسه المرء أحياناً في عربة قطار السكة الحديد حين يظن أنه يعود إلى الخلف بينما في الحقيقة يتقدم للأمام، وفجأة يحس بالاتجاه الحقيقي».

يلقي تولستوي انتظاره وراء ظهره، في وفاة ايفان ايلتش، وهو ما فعله مؤلف «الحرب والسلام» عندما سار على خطى بطله؛ حيث ذهب تولستوي في أحد الأيام ليستقبل الموت بهدوء في محطة قطار متخلصاً من كل عبء وعود ومخاوف الانتظار.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"