عادي

دراسات ميدانية تنتظر البحث

00:09 صباحا
قراءة 6 دقائق
2204

يوسف أبولوز

إلى أي مدى ظهرت الإمارات كحالة جمالية في الآداب والفنون والكتابات والموسيقى والإبداعات المحلية عموماً؟، سؤال «ميداني»، إن جازت العبارة، أكثر من كونه سؤالاً نظرياً؛ وذلك بمعنى أنه سؤال بحث مطوّل وسؤال دراسات ومعاينات ثقافية ميدانية في النتاج الأدبي والفني الإماراتي على مدى أربعة عقود من الزمن على الأقل.

يقع واجب الإجابة عن السؤال على عاتق الباحثين في أسئلة وقضايا وظواهر الآداب والفنون المحلية أكثر من وقوع واجب الإجابة على عاتق نقّاد الأدب الذين يشتغلون، عادة، على نظريات ومصطلحات ومفاهيم أكثر من اشتغالهم على الميدان، والميدان، السابق الإشارة إليه، مقصود به هنا النصّ ومكانه وزمانه ومنتجه بوصفه دالاً على ظاهرة، وليس بوصفه نتاج نظرية أو مصطلح أو مفهوم.

ينشغل النقد الأدبي عادة بقضايا محددة في النص الأدبي «الشعر والقصة تحديداً» مثل اللغة، أو الرمز، أو الخيال أو التناصّ أو الزمان أو المكان أو ما يُسمى «الزمكانية» في النصّ، وهو بالمناسبة مصطلح أو مفهوم هجين شغف به الكثير من النقاد العرب من دون استيعاب عملي له، ومن دون تطبيقات «ميدانية» لعناصره النقدية.

حين نتساءل عن الإمارات بوصفها حالة جمالية ظهرت في الأدب والفن أم أن هذه الحالة هي مجرّد تمثّلات متفرّقة هنا وهناك في السرد والفن والكتابة عموماً، فإننا نتساءل عن سياق ثقافي بأكمله تشكل في عشرات السنوات، وقام أيضاً على مئات النصوص التي تحتاج إلى قراءة واسعة، مرة ثانية، اسمّيها، قراءة ميدانية، فهل، أمامنا مثل هذه القراءة، وهل هناك بحث عملي تطبيقي جرى على الكتابة الإماراتية وكان هدفه الأساسي معاينة جماليات المكان الإماراتي والنطق بملامح وخصائص هذه الجماليات؟، باختصار، لا يوجد مثل هذا البحث، ولا يوجد مثل هذا النطق حتى الآن بالمعنى المهني الميداني، وإنما هناك ما يشبه الشذرات النقدية التي تتناول؛ بل «تشرح» خصائص أو عناصر النصّ الأدبي في معزل عن مكانه وجماليات مكانه، وإذا وضعنا تساؤلاً موازياً لتساؤل جماليات المكان الإماراتي في الآداب وفي الفنون مفاده..

«.. وَمَنْ عليه يا ترى يقع واجب قراءة ومعاينة هذه الجماليات المكانية الإماراتية؟؟.»، نجيب بسرعة: إن أهل مكة أدرى بشعابها، فالباحث الإماراتي هو وحده من يعرف هذه الشعاب، وهو وحده من يقع عليه واجب القراءة، وواجب النطق بمظاهر الحالة الجمالية المكانية الإماراتية في الآداب والفنون المحلية، وهذا الباحث، غائب أو أنه غير موجود، أو أنه موجود، ولكن البحث في ظواهر كبيرة كهذه يحتاج إلى جهد مُضاعف لا يقوى عليه فرد بعينه؛ بل، هو من شأن أعمال المؤسسات.

مسؤولية

هذه، إذاً، قضية ثقافية عامّة تتصل مباشرة بمسؤولية ووطنية الكاتب الإماراتي، وليست مجرّد مادة ثقافية صحفية، وهي أيضاً قضية ثقافية عامّة تتصل بالكاتب العربي المقيم في الإمارات، وعرف عن قرب جماليات المكان الإماراتي، وتابع الكتابة الإماراتية، وهناك من يقيم في الإمارات من الكتّاب العرب منذ السبعينات والثمانينات إلى اليوم، البعض منهم عُرِفَ كاتباً هنا في الإمارات ولم يعرف في بلده، لقد كبرت حوله هذه الجماليات التي نتحدث عنها، والبعض كتب في النقد الأدبي وقوامه تجارب أدبية إماراتية، والبعض أنشأ نصّاً شعرياً أو روائياً أو قصصياً ينبض بروح إماراتية وخصوصيتها الجغرافية والتاريخية.

يقوم المكان الإماراتي على ثلاث بيئات أساسية، لكل بيئة جمالياتها وروحها وقدرتها المادية والمعنوية على الإلهام الأدبي والفني، ولقد تحدثت وكتبت وقرأت أكثر من مرة عن هذه البيئات الثلاث وهي كما هو معروف للجميع: بيئة البحر، وبيئة الصحراء، وبيئة الجبل.

المفردات الجمالية والثقافية والاجتماعية في بيئة البحر هي: الغوص، النوخذة، أغاني البحر «اليامال مثالاً لا حصراً»، المركب، السفينة، اللؤلؤ، الغيابات الطويلة في غياهب وغموض البحر، وقد شرح ثقافة البحر عبدالعزيز جاسم في كتابه البحثي التاريخي الفكري أيضاً: «مجهول البحر ومعلومه» الصادر قبل أكثر من عشر سنوات عن دائرة الثقافة في الشارقة.

مفردات البحر عديدة ومحدودة في الوقت نفسه، ذلك، أن بيئة البحر هي بيئة ملمومة. بيئة ماء وغموض وعزلة. بيئة مقطوعة تماماً عن اليابسة، بعكس بيئة الصحراء التي تتدرّج رويداً رويداً إلى أن يصل خط الرمل إلى حجارة الجبل، فلا انقطاع بين الصحراء والجبل؛ بل الانقطاع نلاحظه بكل وضوح في بيئة البحر التي لا تتيح سوى شريط صغير هو «الشاطئ» بينها وبين اليابسة، ومن، ثم، ينعزل البحر في زرقته الغامضة، ويموت فيه من يموت، ومن حق قبطان السفينة أن يأمر البحّارة بربط الميت بالحبال، وإلقائه في عرض الماء، لتأكله الحيتان، وحتى من يُكتشف أنه مصاب بوباء مثل الكوليرا أو الطاعون أو الملاريا، فإن من حق القبطان «الذي هو النوخذة في الثقافة الشعبية الإماراتية» أن يتصرّف بعزل هذا المريض، وربما التخلص منه.

جمالياً، ظهرت بيئة البحر في الإمارات في أعمال تشكيلية «وتحديداً الرسم بالماء»، أما المسرح الإماراتي فهو يكاد يكون وثيقة أدبية، بصرية، جمالية، ثقافية وتاريخية لبيئة البحر، وقد كانت فترة الثمانينات هي فترة المسرح الشعبي أي يتحدث باللهجة الإماراتية المحلية، ويحمل قصص وتراجيديات الغوص على اللؤلؤ، وموت البحّارة، وفقرهم، واستغلالهم، أحياناً من جانب النوخذة.. هذا من حيث الجانب الثقافي الاجتماعي لبيئة البحر في المسرح، ولكن، من الناحية الجمالية، ظهرت الأغنية البحرية العذبة الحزينة في العرض المسرحي الإماراتي - بأبعادها الحنينية إلى تلك البيئة الشعبية البحرية.

حنين

يجب أن يشار هنا إلى الجانب الحنيني الذي لا يُفارق أبداً الحديث عن جماليات المكان الإماراتي. إن الحنين إلى ماضي هذه البيئات الثلاث:.. الحنين إلى الغوص، الحنين إلى ذاكرة النخلة، الحنين إلى البراجيل، الحنين إلى الأبواب، والفرجان «جمع فريج، وهو الحي الشعبي». الحنين إلى الفنر «وهو السراج أو القنديل». الحنين إلى اليامال، وغير ذلك من مفردات دالّة على هذه البيئات هو حنين مرتبط بكل ما هو شعبي، وجميل، وفطري، وعفوي، وبسيط في البر والبحر والجبل. هذه نقطة وددت تأكيدها قبل الانتقال إلى البيئة الثانية ومفرداتها الجمالية والثقافية والاجتماعية، وهي بيئة الصحراء «أو بيئة الرمل»، ولكن لا ننسى هنا، ونحن نتحدث عن البراجيل والأبواب والشبابيك في المعمار المدني المحاذي للبحر.. لا ننسى أهم فنان إماراتي التقط روح الباب، وروح هذه المفردات المعمارية وهو عبدالقادر الريّس، وسوف توصله هذه المحلية التشكيلية الإبداعية إلى العالمية، ليصبح الباب، مثلاً، في لوحة الرّيس هو الرمز المكاني الذي يحيل إلى ثقافة ساكن البيت وتقاليده وثقافته الشعبية التي تلتقي مع ثقافات شعبية مشابهة.

مفردات

مفردات البيئة الصحراوية: هي الرمل، الإبل، الشعر الشعبي النبطي تحديداً، ومرة ثانية، ستكون اللوحة التشكيلية هي الوثيقة البصرية الحيّة لجماليات هذه البيئة التي يعاودها الحنين أيضاً، وبخاصة في بعض السرديات الشعبية الحكائية - الماثلة في قصص الشعر الشعبي.

انطلق المسرح الصحراوي في الشارقة في عام 2015، وهو مسرح شعبي، حكائي، متخصص تجري عروضه على الرمل، ومن ناحية جمالية، يعكس هذا الفن الجماعي روح الصحراء وروح مفرداتها الثقافية والتاريخية والأسطورية، والفروسية، ويلتقي هذا المسرح المتخصص بوصفه انعكاساً جمالياً للصحراء.

تشكل النخلة ما يشبه «الثيمة» الأيقونية في الشعر وفي القصة القصيرة في الإمارات: «علينا أن نعود إلى قصص مريم جمعة فرج، وإبراهيم مبارك» في البيئة البحرية، ونعود في موازاة ذلك إلى قصص ناصر جبران وناصر الظاهري حين نعاين أيقونية النخلة في الأدب الإماراتي القصصي، إلى جانب هذا الحضور الأيقوني أيضاً في الشعر الإماراتي، ولكن بنسب أقل، ومرة ثانية يرتبط الحنين بهذه العلامة الأيقونية الجمالية.

إننا لا ننسى ارتباط النخلة بالصحراء وثقافتها وإشاراتها الحكائية والأسطورية، ولكن ليست النخلة وحدها من تحضر جمالياً وثقافياً وحنينياً في الأدب الإماراتي، هناك شجرة السدر، وهناك شجرة الغاف التي اعتبرتها الدولة رمزاً وطنياً في عام التسامح وترمز إلى الثبات والقوّة والأصالة.

أكثر فنان تشكيلي إماراتي، وربما على مستوى عربي، ارتبط بطبيعة الجبل وفضاءاته الصخرية والشجرية والجيولوجية هو الفنان محمد أحمد إبراهيم الذي قام قبل سنوات بلف سيقان بعض الأشجار بالقماش في أماكن جبلية في خورفكان، أما عمله المذهل «حديقة الحجارة المتساقطة» فهو عمل تشكيلي، نحتي قائم على صخور الجبال ضمن حضور فني راسخ في المكان ضمن تماهٍ بصري وجغرافي مع الجبل، وطبيعته القوية الثابتة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"