عادي

العربية.. قرون من التطور

22:44 مساء
قراءة 6 دقائق
2401
استطلاع: نجاة الفارس

نقرأ عن الآداب الأخرى أن هذا الكاتب أو ذاك أحدث ثورة في اللغة، فهل استطاع أحدهم فعل ذلك في اللغة العربية؟ يؤكد عدد من الكتاب والنقاد أن العربية ظلت عروس اللغات المحافظة على ألقها وحسنها، وفي العصور اللاحقة كنا نجد عشرات الأسماء التي أسهمت في تفجير طاقات اللغة، ومن الصعب علينا أن نختزل المؤلفين الذين أحدثوا ثورة في آدابها فلكل عصر مفرداته وظروفه الحياتية والتاريخية.

قال كتّاب ل «الخليج» إن ما يميز اللغة العربية عن غيرها أنها لغة مرتبطة بفكر وأسلوب حياة وحضارة، ومن المفترض ألا تنفلت عن واقع مجتمعها، فوجودها مرتبط بوجود العقيدة الربانية.

يقول الناقد الدكتور محمد الحوراني: «حافظت اللغة العربية على ألقها وديمومتها منذ فجر إشعاعها الذي انبثق من أول فترة تاريخية وثقت بها، وأقصد بذلك العصر الجاهلي الذي أنجب أكبر مفجري الطاقة اللغوية عبر الحقل الشعري وهو امرؤ القيس، ليكون بذلك علماً على توظيف الحقول اللغوية والدلالية في فضاء الأدب باعتراف العرب والمستشرقين على مر العصور».

ويضيف: «لاحقاً جاء أعظم مصدر مفجر لطاقات اللغة العربية، ليجعل منها لغة عالمية، وأقصد بذلك القرآن الكريم، فقد اختارها الله لتكون وعاء لكلماته، وتعهد بحفظها، وأصبحت محط أنظار العالم لما فيها من ضرورة للمشرق والمغرب، وهذا بدوره أسهم في ديمومة حياة العربية ورفعتها ورقيها، ففي حين دفنت مئات اللغات، واندثرت العشرات، وتغيرت جذرياً أخريات، ظلت العربية عروس اللغات المحافظة على ألقها وحسنها، وفي العصور اللاحقة كنا نجد عشرات الأسماء التي أسهمت في تفجير طاقات اللغة، ففي المجال اللغوي نجد الخليل بن أحمد الفراهيدي واضع أول معجم لغوي، وأسماه كتاب العين، وفجر من خلاله أول فكرة حول مخارج الحروف، ومن ثم قام باختراعه الأكبر ليكون أول من يفجر منظومة متكاملة في موسيقى الشعر، ليأتي بعده تلميذه سيبويه ويؤسس علم النحو، ليشكل بذلك علماً متكاملاً في تجذير القواعد العربية.

ويوضح؛ في الإطار الصرفي نجد ابن جني العالم الذي فجر طاقات اللغة عبر منظومة الاشتقاق وفقه اللغة في كتابيه «الخصائص» و«سر الصناعة»، وهو أول من مهد الطريق إلى اللسانيات الحديثة، ليأتي من بعدهم ابن مالك ويؤلف الألفية التي أصبحت علماً على نحو العربية ليصنف حولها عشرات المصنفات، وفي الحقل المعجمي يأتي ابن منظور ليجمع أكبر عدد من كلمات العربية في معجم العربية الأكبر «لسان العرب»، وفي الحقل البلاغي نجد عبد القاهر الجرجاني في كتابيه «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة»، وفي حقل الشعر نجد شاعر العربية مالئ الدنيا وشاغل الناس أبو الطيب المتنبي يتربع على عرش الشعر، وفي حقل الأدب والنقد نجد بحر العربية الجاحظ وغيره من مفجري طاقات اللغة، وحاملي لواء العربية لتكون لغة عالمية في الوقت الذي كانت لغات أخرى تموت وتندثر.

ويذكر الدكتور الحوراني، أما العصر الحديث، فقد أسهمت طبيعة العصر في إعلاء شأن علماء اللغات ولا سيما الإنجليزية، وذلك لا يعود إلى تراجع العربية أو أفضلية اللغات الأخرى، ولكن الأمر يعود إلى التطور المذهل لدى الدول المتقدمة وسعي العالم باتجاه الإنجليزية التي سيطرت على مفاصل العالمية، ومع ذلك كان لدينا عدد كبير من حاملي لواء العربية ومفجري طاقاتها عربياً وعالمياً في العصر الحديث، ومن هؤلاء: كمال بشر، وشوقي ضيف وحسني سبح، وفي مجال الشعر هناك شوقي، والسياب، ونزار وغيرهم، وفي مجال الرواية هناك نجيب محفوظ، وكل هؤلاء حملوا لواء اللغة العربية إلى العالمية.

محيط لا ينضب

الشاعر ناصر البكر الزعابي، يقول: «اللغة العربية محيط لا ينضب، بمفرداتها وكلماتها المتنوّعة والعميقة، حضورها اللافت ورونقها البهيج وأصالتها تفرض وهجاً خاصاً، ومقارنة بالآداب الأخرى تصعب مقارنة اللغة العربية ببقية اللغات، فإضافة إلى قدسيتها عند المسلمين باعتبارها لغة القرآن الكريم، فقد تميّزت لغة الضاد بقواميسها الغزيرة ووجود آلاف الكلمات ذات المعاني المختلفة والتي لا يزال الكتّاب ينهلون منها قديماً وحديثاً، لذلك من الصعب علينا أن نختزل المؤلفين الذين أحدثوا ثورة في آدابها فلكل عصر مفرداته وظروفه الحياتية والتاريخية، فمن يقرأ لأشعار الجاهلية وعصر الإسلام مروراً بالعصر الأموي الذي نشأ فيه تعريب الدواوين، مروراً بالعصر العباسي وصولاً إلى العصر الحديث فقد ظهرت أسماء لامعة قدّمت نتاجات حيوية ذات لغة فخمة وأنيقة بأساليب جزلة أكّدت قيمة وأهمية اللغة العربية، مثل العلّامة الجاحظ الذي أثرى المكتبة العربية بمجلدات ضخمة وقيّمة وطبع أسلوبه الفريد، وسبقه عبدالحميد الكاتب في العصر الأموي والذي يعد من مؤسسي أدب الرسائل منذ عصر مبكر، وقدّم أغراضاً لغوية غير مسبوقة وعدّه البعض من مؤسسي النثر العربي، ولا يمكن إغفال أسماء لامعة غيّرت الكثير في الأدب العربي مثل أبو الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد والزمخشري وسيبويه».

ويتابع الزعابي: «لم يقتصر الأمر على تلك العصور فقد برزت أسماء لامعة في العصر الحديث استطاعت تقديم اللغة بصورةٍ تفيض بالسلاسة والحيوية خاصة في مجال الشعر فعلى سبيل المثال، قدّم الشاعر محمد مهدي الجواهري إبداعات لا تنسى ولقبوه بمتنبي العصر، أثّر كثيراً في الحركة الشعرية العربية وكوّن مدرسة شعرية خاصة، ولا يمكن إغفال تجربة الأديب سليم بركات وأعماله الشعرية والروائية، فقد انتشل بعض المفردات المنسية والمهملة وأعاد تقديمها بصور تعبيرية خلاّبة، بثراء لغوي مدهش جعله واحداً من أشعر أهل الأرض، وهناك العديد والكثير من الذين ساهموا في رفد آداب اللغة في مجالات أخرى لذا يصعب اختزال ذلك في عدد محدود، أجد أن اللغة العربية بخير طالما حافظنا على هويتها من حملات التغريب».

الدكتور أديب حسن، يقول: «الثورة في اللغة العربية لم تأت عن طريق كاتب واحد بعينه بل عن طريق تضافر جهود عدة كتاب على امتداد فترة زمنية طويلة، كان للشعر بالتأكيد الدور الأكبر في تثوير اللغة كونه الحامل الأبرز للغة العربية من جهة، ولكونه المسؤول الأول عن توسيع نطاق اللغة من خلال ما يحق للشاعر من إقحام واستنباط مفردات جديدة على اللغة، ولعل شعراء مرحلة ما قبل الإسلام كان لهم الفضل في وضع لبنة تحديث وتوسيع اللغة العربية، مثل طرفة بن العبد وزهير بن أبي سلمى، وبلغت اللغة أوجها في العصر العباسي على أياد شعراء وكتاب أفذاذ لا سيما المتنبي والمعري، لكن هذا التحديث لم يلبث أن خف بريقه فيما بعد في عصور الظلام تحت الاحتلال العثماني، إلى أن بدأت بوادر التنوير مع بدايات القرن التاسع عشر مع كتابات الكواكبي وطه حسين ونجيب محفوظ، وشعراء الحداثة أدونيس وبلند الحيدري ونازك الملائكة والسياب».

تأثير

الدكتورة الناقدة مريم الهاشمي، تقول: «إن السلوك الحضاري عبارة عن نتاج المفاهيم والتصورات الحضارية التي ينتمي إليها الإنسان ويعتقد بها، والتي بدروها تفرز السلوك، وإن كانت التقنية تمثل جسم الحضارة، فإن الثقافة روحها، ويتم تمثل الحضارة في إبداع الإنسانية ومنجزاتها منذ وجودها، ونجد اليوم السياسة الكونية يعاد تشكيلها الآن على امتداد الخطوط الثقافية، وأكبر نتاج للثقافة هو الكتاب، والمؤلفات التي تكتب بلغات مختلفة بطبيعة الحال وهو ما يجعلها متمايزة ومتفردة، فاللغة عنصر من عناصر التراث المرتبط بالهويات، ويُقال أحياناً على سبيل المداعبة إن الإغريق يتعرفون إلى أنفسهم في«الإلياذة»، والإيطاليين في «الكوميديا الإلهية»، والإسبان في«دون كيخوني»، والإنجليز في «هاملت»، والفرنسيين في «المقالات»، والألمان في «فاوست»، والعرب؟ أي كتاب كان له ذلك التأثير؟

وتؤكد أن الآراء تتباين حول ذلك وتتعدد المؤلفات الفارعة التي تعطي انطباعات مشرفة حول تأثير هذه اللغة الرشيقة في الآداب والحضارات، وفي ذات الوقت علينا أن نتسم بالموضوعية والشجاعة بألا نشيح عن حقيقة أن الأفكار الجاهزة تحكمنا وتسم بميسمها عشرات الأجيال في نظرتهم للتجارب الإنسانية ومنها تجربة تأثير الأدب واللغة، ولا يمكن أن نرفض واقعية تعدد اللغات، وأن التاريخ اللغوي الذي هو مظهر من مظاهر تاريخ العالم ليس جزء كبير منه سوى إدارة لهذا التعدد اللغوي، ونجده قدراً مشتركاً، والسؤال الأجدر بطرحه هو كيف يمكننا أن نقبل هذه الازدواجية والتعددية وكيف يمكننا أن نؤثر فيها الآن؟ ودون أن ننسلخ من تراثنا وتاريخنا اللغوي والأدبي.

محور التحول

تقول الناقدة الدكتورة أمل التلاوي: «في كل ّ مسارات الأدب نرى أعمالاً تقف على محور التحوّل وتتربع على عرش السبق، وإن لم يغد مسار التجديد مرتبطاً باسم صاحبه فالنّص نفسه هو ما يغدو علامة فارقةً ومفصلًا يؤرخ له عند الحديث عن النوع الأدبي هذا أو ذاك، ففي مسيرة الشعر العربي الحديث تتربع قصيدتا «الكوليرا» لنازك الملائكة، و«هل كان حبا» لبدر شاكر السياب على مفصل التحوّل نحو شعر التفعيلة، وإن كان للتحول دوافعه الاجتماعية والنفسية والإنسانية إلا أن نصاً ما يحمل أفضلية السبق ويسجل علامة التحول، ولو تابعنا مع الشعر لوجدنا أدونيس وهو يتصدر شعر النثر مع أنسي الحاج، وهكذا نلاحظ أن كلّ تحولات الشعر كان لها روادها المجددون والذين أرّخوا لأسمائهم بالنوع الجديد الذي قدموه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"