عادي
يهيمن عليها الإحساس بالوحدة والمشاعر المتناقضة

«الغربان في حقل القمح».. رسالة فان جوخ الأخيرة

22:48 مساء
قراءة 4 دقائق
«الغربان في حقل القمح»
فان جوخ

الشارقة: علاء الدين محمود
لا تزال لوحات الرسام العالمي فان جوخ تجد اهتماماً كبيراً من قبل محبي الرسم والتشكيل، وبصورة خاصة لدى النقاد والمختصين الذين يعملون بصورة مستمرة على تشريح وتفسير تلك الأعمال الخالدة والساحرة من أجل اكتشاف أسرارها، حيث إن الكثير من تلك اللوحات تحتفظ بدرجات كبيرة من الغموض، ما يثير فضول المختصين الذين يعملون على فك شفراتها.

لوحة «الغربان في حقل القمح»، التي رسمها فان جوخ قبل وفاته بقليل في عام 1890، اعتبرها الكثيرون آخر أعماله وأنها بمثابة رسالته الأخيرة، حيث أطلق النيران على نفسه بعد أيام فقط من الانتهاء من رسمها في أحد حقول القمح. وعندما رسم جوخ تلك اللوحة المميزة كان وصل إلى أعلى قمة درجات القلق النفسي ونوبات الجنون العقلي الذي كان يعانيه.

اللوحة بمثابة تعبير وتصوير لما يدور في دواخل الفنان، فهي تظهر القلق الكبير الذي تفنن في تعذيب جوخ، ويصور العمل سماء غائمة مملوءة بالغربان فوق حقل قمح الذي تختبئ فيه أشباح غير مرئية حيث لا يظهر منها غير الظلال، تلك التي يرى جوخ أنها تتربص به، وهي تحمل العديد من الدلالات، فقد تكون الموت، أو ربما البشر بما يحملون من عداءن وأنفس مملوءة بالقبح، أو ربما تكون تلك الظلال هي الجنون كما يراه جوخ، لكن على أية حال، فإن الصورة القاتمة في اللوحة من غربان تنعق وظلال تتربص ورياح تزمجر تزيد من معاناة جوخ وتثقل روحه المرهفة.

وتحتشد اللوحة بالرموز والدلالات التي اختلف النقاد في تفسيرها، فالبعض يرى أن الرياح في العمل هي تلك المشاعر التي تعصف به وكذلك قتامة الأفق، ويرى آخرون أن الغربان تمثل المستقبل المظلم غير الواضح.

المصحة النفسية

تنتمي اللوحة إلى مرحلة وجود جوخ في المصحة النفسية، حيث استطاع في تلك الفترة أن يرسم أجمل وأشهر لوحاته، ففي عام 1889، شعر جوخ بتدهور الصحة العقلية فقام بفحص نفسه في مستشفى «سانت بول دي موسول»، وهى مستشفى للأمراض العصبية والعقلية تقع في دير سابق في بلدة «سان ريمي دي بروفانس»، في جنوبي فرنسا، وتم تشخيص حالة الفنان بأنه يعاني نوبات صرع، لكن الباحثين اقترحوا، آنذاك، مجموعة من التشخيصات البديلة، بما في ذلك الاضطراب ثنائي القطب، وإدمان الكحول، و«البورفيريا» المتقطعة الحادة، وهو اضطراب مرضي، وبالفعل مكث في المستشفى لمدة عام، قام خلالها برسم مناظر لحدائقها وكذلك المناطق الريفية المحيطة بها، وكانت كل تلك الأعمال تعبر عن قلقه واضطراباته النفسية ومخاوفه الشديدة.

في اللوحة يرى المشاهد الكثير من المشاعر المتباينة والمتناقضة، حيث يختلط الأمل مع اليأس، والإحساس بالوحدة مع الألوان الساطعة المشعة بالنور، تلك المتمثلة في القمح الأصفر الناصع، والسماء الداكنة القاتمة التي تشير بالفعل إلى اضطراب عظيم ومخيف، ويرى بعض النقاد أن اللوحة بتباينها ذلك تشير بقوة إلى قدرة جوخ على الفصل بين المشاعر المتناقضة التي تنتابه، وربما ذلك ما دفع الفنان والمؤرخ ديفيد نورمان إلى القول: «نعرف أن هذا الرجل غارق في اليأس، وعلى شفا الانتحار، ومع ذلك فهو يظهر في لوحاته ما يراه في العالم الخارجي حوله».

مسارات متعددة

ويزداد الشعور بالوحدة لدى الفنان من خلال مسارات متعددة في اللوحة، فهناك مسار مركزي لا يؤدي إلى أي مكان، فقد تم تصوير السماء على أنها ملبدة بالغيوم وكئيبة، وهي تثير المشاعر المقلقة لدى المشاهد، ويجسد الفنان هنا كل مخاوفه وقلقه. لقد كان جوخ وحيداً جداً، فهو يعيش في مستوطنة للأشخاص المصابين بأمراض عقلية، وكان معزولاً عن المجتمع، وقد كتب المؤرخ الفرنسي جول ميشليه عن تلك الغربان التي تجتاح مشهد اللوحة في معرض قراءته للعمل: «إنهم يهتمون بكل شيء، ويلاحظون كل شيء».

ويقسم خط الأفق، في العمل، اللوحة إلى عدة أجزاء، وفي ذلك التقسيم يكمن التدفق المعقد والغامض لأفكار الفنان، ويلاحظ النقاد أن الرسم قد تم عبر ضربات فرشاة خشنة وسميكة للغاية، بلمسات شريرة، وهي تبدو واضحة للناظر، ما يشير بالفعل إلى أن الفنان لم يكن في مزاج جيد بل يعيش نوبة قلق وانفعال شديدين.

بوح مباشر

والواقع أن جوخ قد أراد أن يعبّر عمّا في دواخله، ليس عبر الكلمات والبوح المباشر، بل عبر وسيلته المفضلة وهي الرسم، فقد عمل على إنجاز لوحة تحمل كل ما يعيشه من بؤس ووجع، وذلك ما ذكره في رسالة لشقيقه ثيو، والتي جاء فيها: «لقد عدت للرسم مرة أخرى، وإن كنت امسك الفرشاة بصعوبة، ولكني أعرف ما الذي أريد أن ارسمه، أعمل الآن على ثلاث لوحات عن حقول القمح القابعة تحت السماء الملبدة بالغيوم، أعتقد أنها تعبر عن ما يجيش في دواخلي»، ويقول في الرسالة نفسها متحدثاً عن لوحة القمح والغربان: «إنها حقول شاسعة من القمح تعلوها سماء مضطربة، ولكني لم أتعمد افتعال تصوير مشاعر الحزن والوحدة، سوف أحضر لوحاتي الأخيرة معي إلى باريس، وتستطيع أن ترى بنفسك ما لا أستطيع قوله لك بالكلمات».

سرقة

لقد ظلت اللوحة على الدوام تجذب الزوار إليها في متحف أمستردام، إلى جانب مجموعة أخرى من اللوحات التي تدور حول المناظر الطبيعية للفنان الشهير رسمها في سنواته الأخيرة، ولأنها من أغلى وأهم لوحات جوخ فقد تعرضت للسرقة، لكن تمت استعادتها بسرعة في عام 1991، وأثناء عملية السرقة تلك، ألحق اللصوص أضراراً بالغة باللوحة التي لا تزال تشغل النقاد ومتذوقي الفن حول العالم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"