لغز الجزائر وفرنسا

00:31 صباحا
قراءة دقيقتين

لا تتوقف فرنسا عن مساعيها لكسر الحاجز النفسي مع الجزائر بسبب الموروث الاستعماري المؤلم، فبعد أن قام الرئيس إيمانويل ماكرون بزيارة رسمية انتهت بإعلان شراكة متجددة وإنشاء «لجنة مؤرخين مشتركة» بين البلدين في أغسطس/ آب الماضي، قادت رئيسة الحكومة الفرنسية إليزابيث بورن حوالي نصف وزارائها، في زيارة غير مسبوقة للجزائر، تهدف إلى ترجمة نوايا للمصالحة بعد ستين عاماً من العلاقة الجافة.
 اندفاع فرنسا باتجاه الجزائر وتنقية الأجواء معها، ظل هاجساً لكل قادة فرنسا، من فرانسوا ميتران وجاك شيراك ونيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند وصولاً إلى ماكرون، الذي يحاول أن يكون مختلفاً أكثر من سابقيه، بسبب شخصيته، باعتباره من جيل أصغر لم يعايش الحقبة الاستعمارية ويريد أن يرسم صورة مختلفة لفرنسا أمام مستعمراتها السابقة. أما الضاغط الأساسي، الذي سرع في هذه الاندفاعة، فيتعلق بالتطورات الدولية الجارية والتأثيرات الاقتصادية الكبيرة بعد اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية، وما نجم عنها من اضطراب حاد في سوق الطاقة وتهديد كبير بمواجهة تضخم كبير، ربما سيرسم حداً فاصلاً بين عهدين في أوروبا، الأول اتسم بالرفاه والوفرة، والثاني ينذر بأوضاع صعبة تعيد القارة العجوز عقوداً إلى الوراء، وفق ما حذر منه ماكرون نفسه مواطنيه قبل أسابيع، حين طالبهم ببذل الجهد والتضحيات في ظل «التحول العميق» الذي يشهده العالم.
  ضمن هذا السياق، وتأميناً للمصالح المستقبلية لفرنسا، تأتي مساعي التقارب الفرنسي الجزائري، وهي محاولة ستحاول من ورائها باريس التخفيف من وطأة التغيرات العالمية، وعبور «فترة الفراغ»، التي تفصل بين نظام دولي ينهار فعلياً وآخر يتشكل بصعوبة. 
 وبالنسبة إلى فرنسا، التي كانت حاضرة وفاعلة في كل حقب التاريخ الحديث والمعاصر، لا تريد أن تفقد دورها في المستقبل. وتحقيقاً لهذا الهدف يسود خطاب سياسي في باريس يرمي إلى إعادة بناء العلاقات مع كل المستعمرات السابقة، وفي صدارتها دول شمال إفريقيا وأولاها الجزائر. وهذه الرؤية تقطع مع النظرة السابقة القائمة على التبعية إلى مستوى آخر يقترب من صيغة التحالف أو الشراكة الاستراتيجية. وقد أوحت تصريحات المسؤولين الفرنسيين في الجزائر بهذا التوجه، لكن المشكلة، التي تواجه فرنسا في هذا الظرف، أن توجهها الحالي، لم يكن نتاج قناعة راسخة، وإنما أملته الظروف الدولية والاضطرابات الجيوسياسية الراهنة، والرغبة الكبيرة في أن يكون لفرنسا فضاء تتحرك فيه بأريحية، بعد أن أصبحت تواجه خصوماً عمالقة، مثل الصين وروسيا، في القارة الإفريقية عموماً وفي دول المغرب العربي على وجه التحديد.
  ربما تستطيع فرنسا أن تفكك لغز الجزائر وتتجاوز العقدة النفسية الذي سببتها الجرائم الاستعمارية، ولكنها ستجد صعوبة بالغة في الهيمنة منفردة، كما لن تستطيع، كالسابق، أن تملي على مستعمراتها القديمة ضوابط علاقاتها الإقليمية والدولية، لكن بمقدورها أن تؤسس مع الجزائر، وغيرها، نمطاً جديداً من العلاقات الحيوية، بعد التكفير عن الأخطاء السابقة وتصفية الذاكرة الاستعمارية. ورغم قوة الخصوم الآخرين، فإن لفرنسا الكثير من المشتركات والروابط التاريخية والثقافية مع الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، وأساساً الجزائر التي باتت تعني الكثير لأوروبا وحتى لجوارها الإفريقي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4sn8kuyh

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"